التحقيق في تاريخ وصول النبي قباء وكيفية اختيار التاريخ الهجري


اسم الكاتب : د. صلاح الدين أحمد عامر

المشاهدات : 8726

مع تكرر ذكرى الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، يتكرر التساؤل عن التاريخ الذي وصل به النبي صلى الله عليه وسلم قباء، والخلاف بين المؤرخين في ذلك، وأحببت أن أكتب في هذا الموضوع معتمداً على المقارنة بين الروايات الحديثية التي لم تحدد التاريخ بالضبط لكنها ذكرت اليوم، وبين والروايات التاريخية التي تضاربت في تحديد التاريخ واليوم ، وأحاول التوفيق بينها، أوالترجيح باعتبار الحساب الفلكي، على أن أخرج بقول وجيه في المسألة، جامعاً بين الروايات الحديثية والتاريخية والحسابات الفلكية، فأقول مستعيناً بالله تعالى:


ذكر ابن القيم رحمه الله أن السنة التي كان فيها نزوله صلى الله عليه وسلم بقباء كانت على رأس سنة 13 من النبوة . وهي السنة الأولى من الهجرة والتي توافق سنة 622م .
واختلفوا في اليوم والتاريخ الذي وصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء على سبعة أقوال:
القول الأول: لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، يوم الاثنين من ضحى ذلك اليوم، وهو صريح ما ذكره ابن هشام عن ابن اسحاق ، وهي رواية إبرهيم بن سعد عن أبي إسحاق كذلك .
القول الثاني: لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وهي عند أبي سعيد في شرف المصطفى من طريق أبي بكر بن حزم .
القول الثالث: يوم الاثنين لليلتين مضتا من ربيع الأول في رواية وهب بن جرير ابن حازم عن أبيه عن محمد بن إسحاق .
القول الرابع: يوم الجمعة من هلال ربيع الأول، أي أول يوم منه، وقد أسند هذا القول ابن حجر إلى رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب، ووصفها بالشذوذ . وقد جمع ابن حجر بين هذا القول والذي قبله فقال رحمه الله: وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال .
القول الخامس: عند الزبير في خبر المدينة عن بن شهاب في نصف ربيع الأول .
القول السادس: السابع من ربيع الأول وقد ذكرها ابن حجر بصيغة التمريض فقال : وقيل كان قدومه في السابع من ربيع الأول .
القول السابع: يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول، ونسبه السهيلي، لغير ابن اسحاق .


وقد رام في عمدة القاري الجمع بين كل تلك الروايات فقال: ويمكن الجمع بين هذه الروايات بالحمل على الاختلاف في مدة إقامته بقباء؛ فعن أنس أنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة، وعن الكلبي أربع ليال فقط، وعن موسى بن عقبة ثلاث ليال، وحكى عن الزبير بن بكار اثنين وعشرين يوما، وعلى اعتداد يوم الدخول والخروج وعدم اعتدادهما فافهم .
ومعنى ذلك وضحه وبينه ابن حجر فقال:
وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي إنه خرج من الغار ليلة الاثنين أول يوم من ربيع الأول فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول، وإذا ضم إلى قول أنس إنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه، لكن الكلبي جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط وبه جزم ابن حبان فإنه قال: "أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس" يعني وخرج يوم الجمعة، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج، وكذا قال موسى بن عقبة إنه أقام فيهم ثلاث ليال فكأنه لم يعتد بيوم الخروج، ولا الدخول، وعن قوم من بني عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يوماً حكاه الزبير بن بكار، وفي مرسل عروة بن الزبير ما يقرب منه كما يذكر عقب هذا، والأكثر أنه قدم نهاراً، ووقع في رواية مسلم ليلاً، ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخل نهاراً.


الترجيح

والذي تطمئن إليه النفس الاعتماد على ما ورد في صحيح البخاري، من أن نزوله قباء كان في يوم الاثنين.
ولو رجعنا إلى الوراء أربعة عشر قرناً، ونظرنا إلى تاريخ هذا اليوم ـ يوم الاثنين ـ أي التواريخ سيوافق من شهر ربيع الأول، فإننا نجده يوافق التواريخ التالية: 
1 ، 8 ، 15، 22،29 من ربيع الأول.
وإذا ما قارنا هذه التواريخ بما سبق من الاختلاف بين أهل السير والتاريخ، نجد أن القول بأنه نزل في 12 ، 13 بعيد من حيث الحساب، إذ أن هذه الأيام لا توافق يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فيوم 12 يوافق الجمعة، ويوم 13 يوافق السبت.
كما أننا نجد تقارباً من حيث الحساب عند من قال بأنه نزل 7 أو 2 إذ أن يوم 7 يوافق الأحد، و يوم 2 يوافق الثلاثا من الشهر ؛ بمعنى أن الفارق يوم واحد.

وأما يوما 22 ، و 29 فيوافقان يوم الاثنين من ربيع الأول، ولكن لا قائل بهما من أهل التاريخ والسير، فيتعين إهمالهما.
ولكننا نجد توافقاً تاماً إذا ما اعتمدنا قول القائلين: إن نزوله صلى الله عليه وسلم كان يوم 1 أو 8 أو 15 ، إذ أنها توافق يوم الاثنين، من ربيع الأول.
ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم، خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر ، وهو يوافق يوم الخميس ؛ ومعلوم أيضاً أنه بقي في الغار ثلاثاً ، فكان خروجه من الغار غرة ربيع الأول، الذي يوافق يوم الاثنين ، وبهذا نعلم أن القول القائل بأن وصوله قباء كان يوم 1 من ربيع الأول، ليس بدقيق، كون هذا التاريخ هو يوم خروجه من الغار، لا يوم وصوله المدينة .
ويبقى يومان هما 8، و 15، من شهر ربيع الأول كونهما يصدقان على يوم الاثنين كما في الحساب السابق.

وعند النظر يمكن التأكد بأن المدة الزمنية في مسير الهجرة، ابتداء من غار ثور، إلى وصوله المدينة لم تكن خمسة عشر يوماً، فالمسافة أقل من ذلك بكثير، كما أن المؤرخين اختلفوا في مدة مكوثه بقباء، فقيل ثلاث ليال، وقيل أربع، وقيل اثنان وعشرون ليلة، وقيل بضعة عشرة ليلة ، وعند اعتماد تاريخ مقدمه 15 يوماً، سيكون مجموع الأيام التي مكثها بقباء، وهي بضعة عشر يوماً إذا اعتمدنا ما في البخاري، مضافة لعدد 15 يوماً يوم مقدمه، هو ما يتراوح بين الثامن والعشرين من ربيع الأول، والرابع من ربيع الثاني، ولا قائل بذلك؛ وعليه يتعين القول إن يوم مقدمه كان هو 8 من ربيع الأول والذي يوافق يوم الاثنين كما بينا .
وبهذا نستطيع الترجيح بين تلك الأقوال ، وإن من طريق الحساب ، اعتماداً على ما في صحيح البخاري في تحديد اليوم من الأسبوع، ومقدار مكثه بقباء، وهو صريح في ذلك . والله أعلم.

وأما مقدار مكوثه صلى الله عليه وسلم، في بني عوف بقباء، فإن ما في صحيح البخاري أنه بضع عشرة يوماً، والبضع هو العدد ما دون العشرة، فيكون تقدير بقائة ما بين أحد عشر يوماً، وتسعة عشر يوماً، وهو ما روي عن أنس كما ذكره ابن حجر آنفاً؛ ويزيد هذا القول قوة إذا ما قارنا أعماله صلى الله عليه وسلم بقباء، إذ أنه بنى المسجد، والمسجد غالباً لا يبنى بثلاثة أو أربعة أيام فقط.


التاريخ العربي
ومن الجدير ذكر ما قال السهيلي في التأصيل للتاريخ العربي، الذي ارتضاه الصحابة رضوان الله عليهم، إذ يقول: وفي قوله سبحانه { من أول يوم } قد علم أنه ليس أول الأيام كلها ، ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر [ فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر ]، فيه من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام والذي أمر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسس المساجد .. فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله سبحانه { من أول يوم } أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن فإن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذوا هذا من الآية فهو الظن بأفهامهم؛ فهم أعلم الناس بكتاب الله وتأويله، وأفهمهم بما في القرآن من إشارات وإفصاح؛ وإن كان ذلك منهم عن رأي واجتهاد فقد علم ذلك منهم قبل أن يكونوا وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بإضافة إلى عام معلوم، أو شهر معلوم، أو تاريخ معلوم، وليس هاهنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم؛ لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو قرينة حال فتدبره ففيه معتبر لمن اذكر وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر والحمد لله .

التعليقات

يوجد 0 من التعليقات

لا يوجد تعليقات