المسألة المعرفية بين بربرية التخصص ووهم الموسوعية


اسم الكاتب : أنس غنايم

المشاهدات : 3001

التخصصية والموسوعية من الإشكالات المعرفية المعاصرة، والتي لها جذور ضاربة في الرواسب الثقافية عند الإنسان من قديم.

ولأنّ هذه القضية من جنس القضايا الملتبسة والمُشْكِلَة فإن الحديث حولها لا يطول حتى يتحول من حديث معرفي إلى حديث أيديولوجي يحمل في طياته نزعات سردية لا يمكن الفكاك منها بسهولة.

وحتى نحاول فض الاشتباك الحاصل في المسألة، نصوغ الإشكالية على شكل مفارقة :

( المسألة المعرفة بين بربرية التخصص ووهم الموسوعية )

إذن نحن في الواقع أسارى رؤيتين إثنتين، رؤية تقطع كلياً مع أي تصور لمعرفة موسوعية ( بربرية التخصص )، وأخرى تقطع كلياً مع أي تصور لمعرفة تخصصية (وهم الموسوعية )

وحتى نحاول مقاربة المسألة مقاربة معرفية، نحاول الوقوف على الأرضية التي تسوغ كل رؤية من الرؤيتين الإيمان بها !


التخصصية :

الدعوة إلى التخصصية وقطع العلاقة مع الفكرة الموسوعية كان وراءه ثلاثة أمور أساسية يمكن ضبطها ورصدها :

١- القضية الأولى : التحرر النسبي للعلوم الطبيعية من سطوة التجريد والفلسفة والتأمل، وما تبع ذلك من ضبط وتحديد أدق ٍ للعلوم .

إذ تحررت الكيمياء من السحر والفلك من التنجيم والفيزياء والرياضيات من الفلسفة.

ففي العصر الإسلامي - مثلاً - كانت تدرس العلوم الطبيعية بمنطق كلامي، كمبحث معروف عند المتكلمين ب " دقيق الكلام " في مقابل " جليل الكلام " الذي يبحث في الإلهيات والنبوات ...الخ .

واليوم بعض العلوم الإنسانية التي كانت تدرس ضمن مباحث الفلسفة كعلم النفس -مثلاً- استقلّت ونحت منحاً تجريباً على يد دلتاي وفيلهام فونت ومدرسة السيكوديناميكيين ( بافلوف وسكنر ).

وهذا مما جعل المعرفة أدق عمّا كانت عليه في السابق، خصوصاً بعد ذيوع المنطق البراغماتي الذي تطبّع العالم الحديث عليه في مطلع القرن العشرين على يد تشالرس بيرس ووليم جميس والذي ملخصه :

(مزاولة " المعنى " محكومة بمحك " المعيار " )

٢- القضية الثانية : وهي التي أشار إليها الفيلسوف الإسباني أورتيجا في كتابه ( تمرد الجماهير ) حين تكلم في إحدى فصول الكتاب عمّا أسماه ( بربرية التخصص ) - ومنه استعرنا الصياغة أعلاه - والذي حاول فيه رصد تحوّلات مفهوم "العلم والثقافة" في ظلّ التخصصيّة التي فرضتها التطوّريّة التقنيّة في مسيرة العلم في "فورته" الكبرى مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، حيث صار بإمكان "متوسطي الإمكانات" من المتخصصين أن ينجزوا في التقنيات إنجازات "عظيمة"، ولأن المنطق الرأسمالي مهموم بإعداد عمّال تستجيب لحاجة السوق الصناعي من مهن ووظائف يكون المطلوب فيها من العامل معرفة مفردة من مفردات تشغيل الآلات والمصانع، فهو لا يراد له معرفة أكثر من حدود حركة جزئية صغيرة.

وفي غير ذلك تجد الشركات والمصانع أن من الخسارة تزويده بمعلومات أكثر من تلك الحاجة المباشرة لتشغيله في نطاق جزئيته المخصوصة، لأنّه كلما زادته معرفته زادت الأعطيات والرواتب وبقدر الحصر الوظيفي / التخصصي يكان العطاء متراسلاً مع هذا الأمر!

٣- القضية الثالثة: يشير إيفان إليش في كتابه ( مجتمع بلا مدارس ) إلى أنّ أخطر ما في النظم التعليمية الحديثة أنّها مبنية على مبادئ " الامتيازات الهرمية"، ذلك أنّ الذي يقضي زمنا أطول في النظم التعليمية التخصصية و يحصل على شهاداتها يتبوأ مكانة أرقى في المجتمع وفي سوق العمل، و يعرّق النظام التعليمي الحالي المزايا التي يحصل عليها الخريج بحسب المعطيات التي يوفرها المجتمع القائم للإنسان - و ليس بحسب أهمية هذه المزايا و ضرورتها - و هي في معظمها معطيات استهلاكية تنافسية تتجه نحو استهلاك المنتجات التقنية التي تفرزها المؤسسات التي تسعى نحو المحافظة على الشرائح المستهلكة في وضعها الحالي .

وبهذا تغدو لعبة التخصصية ، متعلقة بالصعود الهرمي الذي يعطي الامتياز لمن يصعد أسرع من غيره ( ثانوية .. كلية مجتمع .. جامعة .. دبلوم عالي .. ماجستير .. دكتوراه ..الخ ) وعلى هذا فإنّ أي عملية توسع معرفي أفقي - من ناحية عملية - يعني بشكل أو آخر؛ السحب من رصيد الصعود العامودي الذي يعطي الامتياز والفرادة لمن يصعد أكثر فأكثر!

وإذا حاولنا تفسير الدعوة إلى التخصصية بأدوات سوسيوإقتصادية، فإن الحديث عن الموسوعية، نرى أن المدخل الأنسب لمداولته هو ( المدخل السيكولوجي )!


الموسوعية :

بتصوري أنّ الإنسان منذ أن وطأت قدماه هذه الأرض وهو يسعى لمحاولة تفسير هذا العالم, ودرك أبعاده، وفكّ طلسمه وتحليل خوارزمياته، وإلى هذا يشير الأنثروبولوجيين بأن علاقات الإنسان البدئية مع الكون كانت ( لاهوتية ) يحاول اكتشاف نفسه من خلالها، فالطعام واللباس والجنس والصيد والسفر ...الخ، كلها معانٍ كانت تحمل عند الإنسان الأول نفَساً دينياً مقدّساً ، وإلى هذا أشار هايدجر حين قال : بأن الإنسان في علاقاته الوجودية لا ينفكّ عن ثلاث جبهات يحاول إدراكها وفهمها : ( علاقه الإنسان مع نفسه ، علاقة الإنسان مع نظرائه في الخلق ، علاقة الإنسان مع العالم ) ، وبهذا فإن محاولة احتضان العالم ، حلمٌ رهيف داعب خيالات الإنسان في أول وجوده على هذا الكون ولا يزال .

والمشكلة لا تكمن هنا ، إنما في اعتقاد الإنسان بأنّ العلم طريق احتضان العالم !

وهذا ما يجعل المرء لاهثاً وراء السرابات ، محاولاً استقصاء كل فكرة، وتحصيل أي نظرية رنّت في أذنه، وإدراك جماع ما فاضت به أخلاد وقرائح الفلاسفة والعلماء !

وفي الميثلوجيا مصاديق كثيرة لهذه الفكرة من بروميثيوس إلى فاوست!

والحقيقة بأن هذا وهم ما بعده وهم، فالحياة الدنيا، بطولها والعرض، لا تكفي أحياناً لتحقيق مسألة عويصة أو الخروج من ورطة منهجية ، ومن قرأ شيئاً في تاريخ العلوم يعي ذلك بجلاء!

وللخروج من هذه المفارقة ( بربرية التخصص ووهم الموسوعية ) ، نرى أنّ الفصل المطلق بين التخصصية والموسوعية لا يمكن حصوله بحال، إذ يوجد العديد من العلوم والمعارف العابرة للتخصصات، وهو ما بات يعرف في علمياً بمنهج ( الاختصصات المتداخلة = Interdisciplinary )، والذي أهمّ ما فيه :

١- تحرير المتخصصين من الدوغمائية التي يمليها التخصص على هذا الأمر.

٢- محاولة توسيع دوائر الفهم وإدراك المسائل بأدوات أكثر ثراءً وغُنية .

وبمنطق المنهج الذي ذكرناه آنفاً، لا يمكن اليوم لدارس العلوم الشرعية، أن يصرف الطرف عن المناهج الألسنية في فهم النصوص وضبطها، كالهرمنيوطيقا - مثلاً - ، لكن ما ندعو إليه، أن تكون دراسته للهرمنيوطيقا لا باعتبارها علماً يجب فهمه وإدراك مسائله، إنما باعتباره من متعلقات تخصصه الأصلي.

ولا يمكن لباحث في علم نفس اليوم أن يجهل بعض المعارف الدينية واللاهوتية، التي دخلت إلى العديد من مسائل علم النفس كمباحث مستقلة ك ( علم الإلهيات العصبية ) - مثلاً - أو كنظريات في الطب والإرشاد النفسي والتي تعلي من القيم والأديان والرؤى الوجودية في استقامة الصحة النفسية ك ( العلاج الوجودي والإنساني أمثال رولو ماي وفيكتور فرانكل )

ما ندعو إليه ختاماً في هذه المقالة أنّ الحل الأنسب لفض الاشتباك في القضية هو :

الإنطلاق من التخصص كقاعدة معرفية ، والانفتاح على العلوم والمعارف الأخرى باعتبارها معضّدات ومساندات للأصل التخصص، إذ لا يكون الإنتاج المعرفي بغير تخصصٍ دقيق، والقراءات الأخرى توسّع المدارك وتثري القرائح.

فالدخول إلى قصر المعرفة من جهة باب الموسوعية يلزم عليك الخروج من الجهة الأخرى من باب التخصص، حتى لا نضيع ونتشظى بين علوم ومعارف تتراكم يومياً بشكل مخيف !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع :

1. تمرد الجماهير - أورتيغا

2. مجتمع بلا مدارس

3. تطور الثقافة / روبرت دونبار

4. المؤنس في الفلسفة / محمد الشيخ

 

التعليقات

يوجد 0 من التعليقات

لا يوجد تعليقات