تنميط العالم: محاولة في فهم آليات التغريب ومحدودياته


اسم الكاتب : أ.د. محمد أمزيان

المشاهدات : 2801

تنميط العالم: محاولة في فهم آليات التغريب ومحدودياته [*]

سيرج لاتوش


        إن التاريخ يتحرك بسرعة فائقة، فبين لحظة طبع كتابي "تغريب العالم"(1) ولحظة توزيعه، عرف العالم تغيرات بالغة أهمها سقوط المعسكر الشرقي. من بين الخصوصيات التي ظلت لعشرات العقود تميز عالمنا هو ذلك الجدار الحديدي الذي تحول اليوم إلى حطام(2). لقد اختفى بشكل لا رجعي، وهذا ما يجعلنا نعود مرة أخرى للحديث عن تغريب العالم لفهم طبيعة ووجهة وحدود ظاهرة العولمة.

        ذكرت في كتابي السالف الذكر طريقة توضح ما أسميه بـ"التأحيد الكوني"، ذلك أنه خلال سنة 1985 وأنا أتجول في شوارع الجزائر العاصمة مع أحد قدماء طلبتي بادرني بالقول: "انظر، إن الشوارع أصبحت فارغة، إنه موعد بث فيلم (دالاس)" وكان الأمر فعلا ملفتا للنظر في مدينة تتميز بالصخب والازدحام. إن هذه الظاهرة تبرز مع عالمية وسائل الإعلام قضية العولمة الكونية شبه التامة، والتي لا تمس إلا جانباً من جوانب وجودنا، ولكن بشكل عميق جداً. إن هذه الظاهرة حديثة جدا، جاءت بعد التخلص من الاستعمار.

        إن هذه الظاهرة تختلف تماما عن الشكل التقليدي للتغريب الذي عرف إبان الحقبة الاستعمارية، فهي حديثة جدا. فأندونيسيا مثلا، رغم الاستعمار القاسي الذي عرفته على يد البرتغال والذي كان قصيرا نسبيا، ثم على يد الهولنديين والذي يوصف بحدته عادة، استطاعت أن تحافظ على جوهر عاداتها وتقاليدها، ولكن بضع سنوات من السياحة كانت كافية لتحطيم نمط حياتها التقليدية بعد الاستقلال. وبما أن الظاهرة حديثة وجاءت عقب التخلص من الاستعمار، فهل يبقى مشروعا الحديث عن التغريب وتحمل الغرب لهذه التطورات؟ يبدو لي أن الأمر كذلك. إن ما يصطلح عليه صديقي جون شينو في كتاب له "الحداثة/العالم"(3)، أي  تعميم الحداثة على مجموع العالم، ما هو إلا تمديد عالمي لظاهرة نشأت أصلا في الغرب.

        وأعتقد أن الحداثة أصبحت الآن نوعا من الآلية التي لم يعد في استطاعة أحد التحكم فيها، وهو مسلسل يشتغل على المستوى الكوني ويتسم أكثر فأكثر بالغموض. هذه الحداثة/العالم ترتكز على القيم التي تدعي العالمية، والتي نشأت وتجذرت جغرافيا وتاريخيا في الغرب. ويبدو لي أن هذه الأطروحة تثير مجموعتين من الأسئلة:

 أولا: ما هي طبيعة هذا الغرب؟ ما هو معنى هذا المسلسل التغريبي للعالم؟

ثانيا: هل هذا المسلسل الكوني لتأحيد الذهنيات وأنماط الحياة يجابه بالصمود؟ وهل تعترضه إحباطات؟ وهل له نهاية؟. وإذا كان الأمر بالإيجاب، أي إذا كان لابد من اختفائه، فهل هناك تصورات ممكنة لنمط حياة جماعي بديل.

        وبشكل سريع جدا سأعرض للحديث عن هذين السؤالين: طبيعة التغريب، ثم سأركز حديثي على المقاومات ونهايات هذه الظاهرة قبل أن أثير إمكانية وجود بديل ما.

        إن التأحيد الكوني الذي أثرته في البداية لم يمارس تحت شعار الاستعمار والسيطرة العسكرية والإدارية، بل تحت شعار العلم والتقنية والتنمية المتضمنة للاقتصاد. واختزال العالم والحياة واليومية في البعد الاقتصادي ما هو إلا الشكل الأكثر حداثة للتوسع الغربي الذي يعتبر خاصية أساسية لطبيعة الغرب، بمعنى أن هذه الظاهرة تختلف بشكل ملموس عن الأشكال الأخرى للإمبرياليات، كما هو شأن الإمبرياليات قديما.

        إذن فالتغريب ينبغي دراسته كظاهرة قديمة ومختلفة عمَّا كنا نسميه قبل بضعة عقود -في بعض الأوساط- بالإمبريالية؛ فهي ظاهرة قديمة لأنها تحيلنا على المد والجزر التوسعيين لأوربا خاصة. هناك طريفة تبدو لي معبرة، عندما وصل الجنرال كورو إلى دمشق سنة 1919 لاحتلال سوريان التي كانت عصبة الأمم قد جعلتها تحت الانتداب الفرنسي، قال وهو يدخل مسجد الأمويين، حيث ضريح صلاح الدين بطل الحروب الصليبية، ضاربا برجله الضريحـ انهض يا صلاح الدين فقد عدنا ! يقصد بذلك تجديد الصلة بالحروب الصليبية واعتبار الاستعمار الحديث امتدادا للتاريخ القديم. وأعتقد أنه يمكن أن نجد قبل الحروب الصليبية شكلا للتوسع الغربي فيما نسميه بالنهضة الكارولانجية(4) زمن شارلمان. فعندما وضع شارلمان يده في يد القديس بونيفاس لإخضاع الساكسونيين -إحدى الشعوب الجرمانية القديمة- كان أحدهما يذبحهم والاخر يعمدهم، وفي الوقت نفسه ظهر في بنية المجتمع الكارولانجي -حسب تحليل إيفان إيليتش(5)- صورة "التقنوقراطي" عندما أعادت الكنيسة هيكلة نفسها عقب انفصال اللائكيين عن رجال الدين.

        أريد أن أقول بهذا: إن الغرب الذي يجد جذوره في هذا البعد التاريخي، يمتلك سمة أشد تعقيداً لا يمكن اختزالها في الرأسمالية فقط كما فعل لينين. إن الغرب يجد تعريفه في مجموعة من المحددات دون أن ينحصر في إحداها: فهو يرتبط بالدين وهو المسيحية، ويرتبط بالفلسفة وهي فلسفة الأنوار، وبالأخلاق وهي التي سماها ماكس فيبر بالأخلاق البروتستانية، وبعرق وهو العرق الأبيض الذي طالما اعتبرنا مع روديار كيبلين أنه حامل عبء الحضارة العالمية، ويرتبط بتنظيم اقتصادي وهو الرأسمالية. إن تحقيق التجانس والعولمة إذن لا يمكن حصرها في المنطق الاقتصادي فحسب، بل تتم بطرائق شتى قد تتناقض فيما بينها.

        لقد تشكل الغرب بعد سلسلة من التحولات المتتالية، فقد عرف المد والجزر في القديم مع النهضة الكارولانجية والحروب الصليبية، ثم المد مع الحملة الاستعمارية الكبيرة الأولى التي قادها "الغزاة" في القرن السادس عشر. ثم عرف مدا جديدا في القرن السابع عشر حيث تطور إلى شكل من الاستعمار الفكري مع الاكتشافات العلمية الكبرى، ثم إنجازات القرن الثامن عشر، ثم مرحلة التخلص من الاستعمار، وأخيراً السيطرة بالعلم والتقنية حيث ننتهي إلى هذه الظاهرة التي أفرزت لنا كوكبا تربطه شبكة قوية من الاتصالات المكثفة المتداخلة والتي تعمل بدون انقطاع.

        إن هذه الظاهرة قد اجتثت من تاريخها وفصيلتها الأصلية، لذلك يمكن على حد ما أن تعتبر اليابانيين أكثر تغرباً من الروس رغم كون هؤلاء مسيحيين من الجنس الأبيض المرتبطين بالغرب. إن حالة الروس مفيدة جدا.. لقد أرادوا أن يتغربوا أربع أو خمس مرات في تاريخهم بشكل عنيف جدا، وهنا أستحضر أسماء أمثال Ivan le terrible و Pierre le grand وCatherineII التحديثيون، ثم لينين وستالين، ولا تزال القائمة مفتوحة، وكان يقال في كل محاولة إن الروس سوف يتغربون في خمسين عاماً واليوم مازلنا نقول نفس هذا الكلام. ويبدو لي الآن أن التغريب أصبح آلة اجتماعية مركبة حيث يشكل الناس عجلاتها، وحيث يمتاز هؤلاء بمجموعة من القسمات الثقافية البارزة أذكر من بينها: الاعتقاد في حركية الزمن الخطية Linèaire، زمن كالسهم ينحدر من الماضي السحيق ويتجه نحو المستقبل البعيد، حيث لا شيء ينمحي في هذا الزمن، وحيث يمكن أن يتراكم فيه كل شيء، إنه زمن "التاجر" (Le Marchand)، زمن التراكم الذي يختلف عن الزمن الذي عرفته أغلبية المجتمعات -حيث الزمن الدائري- ويخلف أيضاً عما عرفته "المجتمعات البدائية"- حيث الزمن ساكن.

         إن مفهوم المكان النيوتوني المتجانس(6) الذي يتصرف فيه الإنسان بالتحول والسيطرة، هو الذي أوحى لديكارت وباكون بمشروع الحداثة، وهذا المفهوم يجعل الإنسان سيدا ومسيطرا على الطبيعة. ووفق هذا الشعور لم تعد علاقة الإنسان مع الطبيعة علاقة تناسق بل علاقة تحكم وكشف لإسرارها للتمكن من توظيفها واستعمالها بشكل عقلاني لإشباع الرغبات. وهذه الرغبات فارغة من أي محتوى، إنها بحاجة إلى تنمية دائمة، وهذا ما يشكل عمق العقل التقنوي (La raison technicienne) النفعوي والاقتصادي. والنتيجة هي  هذه النزعة الجامحة للنمو غير المحدود للرأسمال والتقنيات التي أحكمت قبضتها على الكوكب بأجمعه، إذ أصبحت الآلة مبهمة ومجردة عن المكان.

        سأتطرق الآن إلى مسألة أساسية هي مسألة "التأحيد". لقد تعرض كتابي "تغريب العالم" لعدة مناقشات نقدية تركزت على هذه المسالة بالخصوص. لقد اعتبروا أن قراءتي تتسم بنوع من الاختزال والمبالغة غير أنني لا أرى في الغرب سوى مرداس (Rouleau compresseur) يدك تحته كل شيء ويمحو كل الفروق والاختلافات (في مرحلته الأولى). لم أكن أول من نادى بهذا لم تكن طرائق الغرب كلها، تتضافر وتتآزر لحصد هذه الاختلافات.

        في هذا الإطار أستشهد بفقرة من كتاب جرار بونو Gerard Bonnot  يقول فيها: "من مطار إلى آخر ومن (هلتون) إلى أخر، نكون قد قطعنا العالم كله من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، دون أي إحساس بالغربة ولا شعور بالانتقال من منظر إلى آخر. فحيثما ارتحلنا تصادفنا نفس الأشكال المعمارية من زجاج وحديد، ونفس حالات الاكتظاظ، ونفس أجهزة التلفزيون، ونفس الملاعب، نفس قنينات كوكاكولا، وحتى الأشياء الغريبة (Exotiques) فقدت خصوصيتها وأصبحت الآن تصدر للعالم أجمع من نفس المعامل، ويمكنك التأكد من هذا إذا آنست رغبة من نفسك"(7). ولقد تأكد لي ذلك فعلا؛ ربما كان في الأمر نوع من المبالغة إذ لم يصل الأمر إلى هذا الحد، ولكن يبدو أن العالم أصبح الآن يشتغل في بعض جوانبه بشكل موحد ويسير في اتجاه واحد. وأقتبس هنا فقرتين من كتاب جون شينو تعكسان جيداً فكرة وحدة العالم وإن كانتا محصورتين في بعض الجوانب، يقول في الأولى: "إن العمليات المصرفية في لندن تبدأ من الرابعة والنصف صباحا بتوقيت نيويورك وتنتهي على الساعة الحادية عشرة صباحا، ولكن وول ستريت تكون قد فتحت أبوابها ساعتين قبل ذلك، أي التاسعة صباحاً وتنتهي الساعة الخامسة مساء. أما طوكيو فتكون قد استأنف عملها ابتداءً من الساعة الرابعة والنصف لتداوم على عملها حتى الواحدة صباحا، دائما حسب توقيت نيويورك، لتستأنف بعد ذلك البحرين حيث يبدأ العمل ابتداء من منتصف الليل وينتهي السادسة صباحاً، وهنا تكون لندن قد استأنفت عملها قبل هذا التوقيت بتسعين دقيقة"(8). هنا نلمس فعلا أحد جوانب الكون الذي يشتغل بشكل مترابط ودون توقف. إن هذا الأمر تأكد خلال أزمة الانهيار المالي الذي عرفته البورصات العالمية سنة 1987، أما الفقرة الثانية، فيقول فيها: "إن مهندسا نوويا هنديا وعقيدا روسيا خبيرا في الصواريخ، ومتخصصا يابانيا في صناعة الحاسوب، ومستشارا أمريكيا في الهندسة الحيوية، كل هؤلاء يفكرون وفق نفس المعايير ويستوحون أفكارهم من نفس القيم، ويجدون أنفسهم متضامنين بشكل تلقائي، يعيشون في رغد من العيش داخل عالمهم  النخبوي الصغير في العواصم التقنية الكبرى"(9). هنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام "عالم موحد" وإن كان عالما لا يخص إلا فئة من الناس.

        وأستحضر هنا أيضا تحليلين قديمين لهذه الظاهرة يثيران بعدا لا يمت بصلة إلى البعد الاقتصادي. الأول لـ"بنجامين كونستن Benjamain Constant حيث كتب سنة 1813 يقول: "إن الحديث الذي يتردد على الأسنة اليوم هو حديث التأحيد (Uniformité)": نفس الرموز، نفس المعايير، نفس القوانين، وقد يتدرج بنا الأمر إلى تأحيد اللغة نفسها، ونسعى إلى تحقيق الكمال في كل تنظيم اجتماعين ونأسف لعدم قدرتنا على نسف كل المدن لإعادة بنائها فوق تصميم واحد، وتسوية كل الجبال حتى تصبح الأرض كلها مهاداً، وأستغرب كوننا لم نأمر بعد بحمل الناس على نفس اللباس حتى لا يصطدم وينـزعج "السيد" برؤية مناظر مشينة"(10). إن هذا النص يحمل قيمة تاريخية، فبنجامين كونستن كان يعارض نابليون برفضه للبيروقراطية الفرنسية المركزية. ولكن هذا المسلسل الذي أثاره تم تعميمه على مستوى كوني بفعل "عولمة" الشركات والسوق والتقنيات. ولأسباب ليست اقتصادية فحسب، نجد أنفسنا بصدد الاتجاه نحو نوع من التنميط والانقياد لقيم ومعايير موحدة. أما التحليل الثاني فهو لألكسيس توكفيل Alexis Toqueville الذي كتب ابتداءً من سنة 1840 يقول: "لقد اختفى التنوع من بين الجنس البشري، إننا نجد نفس طرق التصور والتفكير والإحساس في كل العالم، إن الشعوب أصبحت متشابهة ولم يكن هذا التشابه من باب المحاكاة"(11). إنني أعتقد أنه حان الوقت الذي تحققت فيه هذه التنبؤات.

        بقي الآن أن نتساءل عما إذا كان مسلسل التأحيد يعرف نهايات ويصطدم بمقاومات تقف ف وجهه؟ وإذا كتب عليه الفشل فهل من الممكن أن نتصور بديلا لهذه الآلة التكنواقتصادية التي نعيش فيها ونحركها -شئنا أم أبينا- لأننا نشكل بمجموعنا عجلاتها إلى حد ما؟. إن هذه النهايات تعود إلى الإحباطات والمقاومات التي يحارب بها الغرب، وهذه الإحباطات منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي. وأقصد بالإحباطات الداخلية، من جهة، أزمة البيئة حيث أصبح المجتمع واعيا بأننا بقدر ما تقاومنا وتنتقم منا. ومن جهة أخرى، أزمة نظام الدولة القومية، أي أزمة نمط تنظيم النسيج الاجتماعي المهيمن في الغرب منذ عصر النهضة. إن هذا النظام يعاني من الأزمة من جراء تدويل وتعميم الشركات والتقنيات والظواهر معا. إننا نجد في حدث تشيرنوبيل خير معبر عن ظاهرة تتجاوز آثارها إطار الدولة لتشمل دولا أخرى، ونلاحظ بأنه في الوقت الحالي أصبحت الأمم تكتفي بتسيير الضغوطات المفروضة عليها بفعل طبيعة هذا النظام التأحيدي، ولم يعد بإمكانها التحكم في واقعها. أما الإحباطات الخارجية  فتعود إلى إفلاس نموذج التنمية في العالم الثالث، هذا الإفلاس الذي يعني فيما يعنيه إعادة النظر في إشاعة حلم الغرب ليعم الإنسانية جمعاء، أي الحلم الذي يدعي منح الإنسانية مستوى معيشة الإنسان الأمريكي المتوسط.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن فشل التغريب في شكله المحاكاتي -الذي غالبا ما يأخذ شكلا كاريكاتوريا يعود إلى نقل نموذج الدولة-الأمة Etat-Nation إلى مجتمعات بقية العالم- يعود إلى صعود موجات المقاومة. هذه المقاومة تتجلى في تلك السلوكات الثقافية لأولئك الذين تعرضوا لعمليات التغريب دون تحويلها إلى ممارسة فعلية. إن الأمر يرجع بطبيعة الحال إلى الثقافات المحلية التي ما تزال حية والتي يتم توظيفها في حل مشكلات الواقع المعيش ومواجهة التحدي الذي يفرضه مشروع الحداثة. إن هذه المقاومة يمكن اعتبارها بذوراً لبدائل ممكنة. سأكتفي هنا بإيراد نموذج إفريقيا، وخاصة إفريقيا السوداء التي عرفتها عن قرب باعتبارها مجال أبحاثي. لقد نشرت الصحف سلسلة من الأبحاث حول إفريقيا السوداء لتبرز إلى أي حد كانت إفريقيا منسية ومهملة ومهمشة بشكل كامل.

         وأعتقد أن ما أقوله بشأن إفريقيا يمكن أن ينطبق على دول أخرى -في العالم الثالث- بما فيها أمريكا اللاتينية. إن إقصاء إفريقيا من قلب هذه الآلة العملاقة، التكنواقتصادية والعابرة للقوميات يكاد يكون شبه تام، كما أن نصيبها من التهميش كان ضخماً بالنظر إلى ضحالة حجم المكاسب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي استفادها من مشروع الحداثة. إن نظام الدولة-الأمة الذي أقيم إبان فترة الاستقلالات، والذي كان من مهمته مواصلة تحقيق عملية الإنجاز الحضاري الذي كانت تقوم به القوى الاستعمارية قد انتهى على إفلاس تام ندرك نتائجه اليوم.

          ورغم كل هذا فإن إفريقيا لا تقع خارج كوكبنا، بل إنها مندمجة في عمق شبكة التواصل المترابطة التي أشرت إليها سابقا. إنها توجد في قلب شبكات السوق العالمية، وشبكات الشركات متعددة الجنسيات، وفي قلب شبكات التقنيات الإعلامية العالمية. إن هذا الاندماج تم بشكل عميق مما يزيد في خطورة التدمير الثقافي والتبعية، وخاصة التبعية النقدية التي ليست إلا وجها من الوجوه المختلف فيها. لقد أصبحت إفريقيا عنصرا سلبيا في النظام العالمي. وينبغي الإشارة هنا إلى أن إفريقيا السوداء تظهر وكأنها قارة من الغرقى تعيش تحت الإنعاش. وفي مقابل هذا الإقصاء التام نجد هناك إصراراً على الحياة ومقاومة حادة لقارة عميقة الأصالة، متشبثة بعلاقاتها التضامنية الأصيلة. لقد عايشت نموذجا لذلك في بوركينافاسو في قبيلة لوبي، فأثناء الاستعمار قرر سكان هذه القبيلة رفض نهج الرجل الأبيض، ومستوصفاته، ومدارسه، ولباسه، كما رفضوا أداء الخدمة العسكرية. ولقد استطاعوا أن يحافظوا على عاداتهم وتقاليدهم بفضل نظام من التلقين المعقد الذي يضمن مراقبة تامة للمجتمع.

         في هذه القارة الإفريقية نجد نموذجا ثالثا منحدرا من وسط تقليدي أصيل يبحث عن ذاته في ظل الحرمان والضياع داخل أحياء الصفيح. ورغم منطق هذه القارة المهملة والمخنوقة والتي تلهث وراء بعض المظاهر البراقة فإنها تصر على الحياة، وهذا ما أعتبره معجزة. إن هذه المعجزة ناتجة عن عملة تركيب بين تراث ضائع وحداثة بعيدة المنال، ويعود الفضل في إنجازها إلى المجتمع المدني وليس إلى الدول المصطنعة والعميلة. لقد تحقق هذا التلاقح على مستوى المخيال وعلى المستوى المجتمعي وعلى المستوى التكنواقتصادي:

1- فعلى مستوى المخيال نجد أن الإبداع الخلاق يتجلى في ما يسميه الإتنولوجيون بالطقوس التأليفية، كما يتجلى في الحركات الإحيائية، مسيحية أو إسلامية، تلك التي تسعى إلى التوفيق بين قيم الحداثة والقيم التقليدية. وفي كثير من مناطق إفريقيا كحوض الكونغو وساحل البينين وساحل العاج وغيرها كثير، نجد كثيرا من المعتقدات في أوج انتشارها، وقد أصبحت تكتسح كل شرائح المجتمع، خاصة الشرائح الحضرية والجموع الهائلة التي تسكن مدن الصفيح. إن هذه المعتقدات تمنح المعنى للأوضاع الجديدة والصراعات التي تعيشها هذه الشعوب، وهنا تكمن قوتها، فهي من الناحية النفسية تسمح بالتحكم في التوترات التي تعجز عن ضبطها معتقدات الرجل الأبيض كما عجزت عنها المعتقدات الأرواحية(12) التقليدية، وهذا التحليل يمكن أن ينطبق أيضا على ما يجري في البرازيل من عمليات التركيب والتوليف بين مختلف المعتقدات والأفكار.

2- وعلى المستوى المجتمعي نجد أن الأمر يتعلق بإبداع بنيات جديدة تسمح لسكان المدن بتنظيم أنفسهم ضمن شبكات تضامنية، وهؤلاء يعيدون إنتاج ممارسات أسلافهم ولو بشكل جزئي بحيث تستجيب للوضع الجديد. ففي السينغال مثلا، نجد لدى السريريين Sérères قدرة على احتضان الأفراد الذين فقدوا جذورهم المجتمعية داخل أحياء الصفيح، حيث يسارع هؤلاء إلى مشاركة فعلية ضمن شبكات تنظيمية تتراوح ما بين الخمسة إلى العشرة. وهذا الشكل نمن التنظيم الذاتي كفيل بإيجاد حلول ناجعة لكثير من مشكلات الحياة اليومية المستعصية في مدن الصفيح، بدءاً من إزالة الأوساخ وجمع الأزبال وانتهاءً بإجراءات دفن الموتى، مرورا بتوفير شبكات الماء والكهرباء غير المرخصة، إضافة إلى تنشيط الحفلات والقيام بالأعمال الثقافية. إن هذه التجمعات لا تعجز في الغالب في إيجاد حلول طالما أثارت دهشة وإعجاب السلطات العمومية التي لا تجد حرجا في محاكاتها لعجزها عن تبني الحلول المعاصرة للمشكلات القائمة.

        ففي القاهرة مثلا، نجد أن مشكلة التخلص من الأزبال دفعت بالسلطات العمومية إلى التفكير في تبني حلول عصرية كبناء مصانع لإحراقها، مع ما لهذه العملية من سلبيات لما تسببه من تلوث، فضلا عن تكلفتها الباهظة.  ونظرا لانعدام التمويل الكافي لإنجاز مشروع من هذا النوع لجأوا إلى البحث عن حلول أخرى. ولقد كان يكفي النظر إلى ما يقوم به كثير من متعقبي الفضلات في القاهرة مثلا، حيث لوحظ أن هؤلاء يعيشون بفضل ما يلتقطونه، وهي عملية لا تكلف شيئا، بل إن عملية فرز الفضلات توفر لهم قدرا من المال، بتحويلها إلى أسمدة، واستعادة كل ما يمكن إعادة استعماله. ولق تم تبني هذا الحل من قبل السلطات الرسمية بشكل من الأشكال. إنها طريقة مسلية ولكنها تعبر عن مدى نجاعة هذه الممارسات الشعبية التي لا يجد النظام محيدا عن تبنيها. إن هذا التنظيم الاجتماعي الحميمي لا يدين بأي شيء، لا للمسيرين الخارجين ولا لخبراء المنظمات غير الحكومية، بل يشكل قاعدة حية لابتكار صيغة اقتصادية أصيلة يمكن تسميتها حسب ما يتعارف عليه بين علماء الاقتصاد بـ"الاقتصاد غير المقنن" (L'économie Informelle)(13).

3-أما على المستوى التكنواقتصادي فلقد سبق للأنتروبولوجي الكبير كارل بولاني Karl Polanyi أن فسر ظاهرة الحداثة بتألية (Automatisation) الاقتصاد. وفصله عن بقية الجسم الاجتماعي(14). ولكن ما نلاحظه في العالم الثالث هو عكس ذلك حيث تم إدماج "الاقتصادي" في النسيج الاجتماعي. إن عملية "الترقيع" (Le bricolage)(15)، التي تميز غالبا هذا القطاع غير المقنن Secteur Informel، يمكن أن تصل إلى حد ابتكار تكنولوجيا ذاتية تبهر خبراء الاقتصاد. وتحديد هذه الظاهرة غر المقننة يمكن القول: إننا أمام مبتكر حاذق في الهندسة وإن لم يعرف شيئا عن علوم الهندسة، ومبتكر جسور في المقاولة وإن لم يعرف شيئا عن علوم المقاولة، وحاذق في الصناعة وإن لم يدرس علوم الصناعة. إن هذه الظاهرة بمنطقها وسلوكاتها وأشكال تنظيمها مستعصية على الرأسمالية التقليدية والمجتمع الثقافي. إن هذه الظاهرة يمكن أن تتطور رغم "المرداس" الغربي الذي يسعى إلى دك وتسوية كل مظاهر الحياة، نظرا للتنوعات التي ما يزال يزخر بها العالم الثالث، والتي تمنح له القدرة على الصمود والممانعة.

        إن الإنسان في العالم الثالث لا يأكل مثلما يأكل الإنسان في الغرب ولا يلبس مثلما يلبس، كما يختلف عنه في المسكن وفي كيفية قضاء وقت فراغه. ربما كان هذا الأمر عادياً ولكنه مهم جدا. ففي مدينة أذربيجانية مثلا، نلاحظ أنه انطلاقا من بعض العادات المحلية في الأكل تم تطوير نماذج جديدة لتصبح مستهلكة على الصعيد العالمي، وهذا يسمح بتطوير الاقتصاد في كليته لأنه يتطلب مهارات مهمة وقدرة فائقة على الابتكار. إن هذه القدرات العفوية تقوم دليلا على فعالية فائقة في إعادة استعمال تلك الفضلات التي تقذف بها الحداثة الغربية لإعادة إنتاج كثير من المواد الضرورية. كما هو الشأن في بناء صناعة الصفيح انطلاقا من علب التصبير. إن معظم سكان إفريقيا السوداء يستعملون في إناراتهم قناديل مصنوعة من علب التصبير بطريقة ذكية وفعالة نسبيا. وينبغي أن نسجل هنا أن هذه السلوكات إنما هي جواب على تحديات التهميش والإقصاء.

        وفي الختام يمكن أن نقول بأن أشكال الصمود القائم في وجه الغرب يمكن اعتبارها منبع أمل، ولولا ذلك لكان من الممكن أن نتصور أن مصير هؤلاء الذين همشتهم الحداثة الغربية يؤول إلى نفس المصير الذي آل إليه هنود أمريكا الشمالية؛ بكلمة: الانمحاء التام.

        إن هذا الإصرار على الحياة هو شكل من أشكال الاستجابة للتحدي، وهذا يجعلنا نخلص إلى أن نهاية الغرب لن تكون بالضرورة نهاية العالم. إن ظهور اقتصاد وشبكة اجتماعية غير مقننتين، إضافة إلى المقاومات والصمود والثبات في وجه مسلسل التغريب، كل ذلك يشهد على استمرار الروابط الاجتماعية بشكل مطرد كلما تعرض رباط القومية -والنظام المصطنع للدولة التابعة- للتفكك. إن هذه الروح التضامنية العفوية القابلة للتطور والتفتح من جديد، في الوقت الذي قد تتعرض فيه الآلة التكنواقتصادية للعطب، لعدة أسباب كالتلوث وانشطار النسيج الاجتماعي وظهور إمكانات ابتكارية في مجتمعات العالم الثالث، هذه الروح في استطاعتنا تقويتها ومضاعفتها.

        إن أزمة النظام الغربي باعتبارها محصلة التناقضات الناتجة عن إدماج الآلة الاقتصادية النسيج الاجتماعي لا تعني بالضرورة القيامة ونهاية العالم، ولكنها شرط ازدهار وظهور عوالم جديدة ممكنة وحضارة جديدة، ويمكن حينها تدشين عصر جديد.


[*] ترجمه عن اللغة الفرنسية أ.د محمد أمزيان، جامعة قطر.

(1) Serge LATOUCHE : L’occidentalisation du monde, ladécouverte. Paris 1989.

(2) يشير الكاتب إلى تحطيم جدار برلين وسقوط المعسكر الشيوعي.

(3) Jean CHESNEAUX : Modérnité-monde, La découverte, 1989.

(4) تعود هذه الكلمة إلى الأسرة الحاكمة التي اشتقت اسمها من شارلمان والتي حكمت ابتداءً من زعيمها لوبن لوبرف Le Pin Le Brèf إلى لويس الخامس.

(5) انظر تحاليله في مؤلفه: Ivan ILLICH: Le travail fantome, Le Seuil, Paris, 1981.

(6) لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب:

*Alexandre KOYRE: Etudes newtoniennes, Gallimard, Coll, » Idées «, Paris, 1968.

*Max WEBER : L’éthique protetante & l’esprit du capitalisme, Plon, 1964 et reédition France Loisirs 1990.

(7)  Gerard BONNOT :La vie c’est autre chose, Belfond, Paris, 1976, P :156.

(8) Jean CHESNEAUX : op. cit.

(9) Jean CHESNEAUX : op. cit.

(10) Benjq;in CONSTANT : De l’esprit de conquete, Librairie de Medcis, Paris, 1947 , P : 53-54.

(11) Alexis TOQUEVILLE : De la démocratie en Amérique, Gallimard, 1968, P :266.

(12) مذهب يقول بحيوية المادة، يقوم على الاعتقاد بأن لكل نوع من أنواع الكائنات روحاً تدبر أمره وتقوم به صورته. انظر المعجم الفلسفي ص:16، لعبد المنعم الحفني، الدار الشرقية، القاهرة.

(13) إن مصطلح "Informel" ظهر في ميدان الاقتصاد في بداية السبعينات في دراسات حول إفريقيا السوداء قبل أن يظهر في كل الدراسات حول العالم الثالث. إن التعريف الرسمي المعتمد لهذا المصطلح هو تعريف المكتب العالمي للشغل (B.I.T): "إن القطاع غير المقنن يتشكل من مجموعة من الأنشطة غير المسجلة وكذلك الأنشطة المسجلة ولكنها تحمل نفس الخصائص حسب الفروع الاقتصادية المناسبة مثل: مستوى التنظيم، سلم العمليات، المستوى التكنولوجي".

لكن يظهر في هذا التعريف –الذي يميز العقل الاقتصادي الغربي- أنه يختزل الظاهرة في الجانب الاقتصادي الرسمي (Formel)، ويبرز الآخر (Informel) كقطاع طفيلي يعيش على القطاع المقنن.

إننا لا يمكن أن نفهم هذا "القطاع" إذا لم نفهم معنى القطاع الرسمي المقنن (Formel). إن (Informel) هو قبل كل شيء شكل من أشكال الحياة الاجتماعية، إنه ثقافة أصيلة تميز المجتمعات الفقيرة. بل هناك من يرى فيه جنين المجتمع الجديد القادم.

إن ظهور (Informel) يعكس في حد ذاته أزمة قيم الغرب، إنه مرآة تعكس وجه وحقيقة حضارة الغرب. إن زوج (Formel) /(Informel)هو صيغة أخرى للانشطار الحاد الذي يقسم عالمنا: الشمال/الجنوب، الفقراء/الأغنياء.. لذلك لا يمكن أن ندرك حقيقة الاقتصاد المقنن في المركز وأزمة التنمية في الأطراف.

إن العقلانية الاقتصادية تعجز عن قراءة هذه "الظاهرة" لأن معاييرها غير قادرة على التقاط عمق وتجذر "الظاهرة". وهو ما يفسر الاضطراب والتشوش الذي يعرفه المصطلح: بين أربعين وخمسين كلمة لوصف ما يسمى الاقتصاد غير المقنن.

إن ظاهرة (Formel) لم تقتصر على الاقتصاد فقط، بل تتجاوزه ليصبح هناك مجتمع غير مقنن وثقافة غير مقننة... إن هذا يعني فيما يعنيه جواب المجتمع على مأزق التحديث، إنه صيغة ابتكرتها الشعوب المجتثة والمفصولة عن ثقافاتها لتتكيف مع المعطى الجديد.

(14) Karl POLANYI : La grande transformation, tard française, Gallimard, Paris, 1983.

(15) استعملنا لفظ "الترقيع" مقابل الكلمة الفرنسية "Le bricolage" مع أنه لا يؤدي نفس المعنى، وقد اضطررنا إلى ذلك لعدم اهتدائنا إلى لفظ عربي مقابل يحمل ما تحمله الكلمة الفرنسية في هذا السياق من روح خلاقة وقدرة على الإبداع والابتكار بالوسائل المادية المحدودة كما وكيفا، وهو خلاف ما يوحي به اللفظ العربي "الترقيع" لإيحائه السلبي.

التعليقات

يوجد 0 من التعليقات

لا يوجد تعليقات