حول كتاب عزمي بشارة "ما السلفية"


اسم الكاتب : د. نايف بن نهار

المشاهدات : 6204

من البداية أوضح أنه ليس لدي اعتراضات بدافع أيديلوجي على كتابات الدكتور عزمي بشارة في الشأن الإسلامي، فقد قرأت انتقادات لكتابات الدكتور عزمي تدور كلها حول خلفيته المسيحية وأنه تاليًا ليس مؤهلاً للحديث عن الشأن الإسلامي. وأنا أرفض هذا المنطق جملةً وتفصيلاً، فمن حق أي إنسان أن يكتب عن الموضوع الذي يريد ما دام أنه يعتقد أنه يمتلك الأدوات المنهجية والمعرفة الموضوعية بصرف النظر عما يعتقده الآخرون عنه، فمسألة الأهلية العلمية للباحثين مسألة نسبية جدًا، فمن كان مؤهلاً في نظرك قد لا يكون مؤهلاً في نظر الآخرين والعكس صحيح، وحتى نتجاوز هذه المسألة النسبية التي يتحكم بها بنحو كبير المزاج الأيديلوجي فإنه لا مناص من تجاوز البحث في شخص الباحث والانتقال إلى مواجهة مباشرة مع مخرجات بحثه، هذا هو المنهج الذي يضمن لنا وضع أيدينا على المشكلة مباشرةً. وأؤكد هنا أن هناك معايير مزدوجة يتصف بها بعض الإسلاميين من خلال محاكمة الأفكار بنتائجها لا بمقدماتها وأدلتها، فمثلاً لو كان عزمي بشارة يثني على السلفية أو على الإسلام عمومًا ويروّج له ويفضّله على غيره لما كان لدى الإسلاميين مشكلة في أن يكتب عزمي عن الإسلام، بل ربما استضافوه في كليات الشريعة ليحدثهم عن الإسلام، لكنهم يعلّقون أحكامهم إما على شخص الباحث أو على نتائجه، لا على منهج أفكاره وبنيتها البرهانية.

عمومًا، ما أريد قوله إنه لا علاقة لي بكل هذا الجدل، فلستُ منطلقًا منه ولا منتهيًا إليه، وإنما اعتراضي ابستمولجيًا صرفًا، أي أن انتقادي للكتاب متعلق في كيفية بنائه للأفكار والفجوات الاستدلالية بين مقدماته ونتائجه. وانطلاقًا من ذلك أقول إن موقفي من الكتاب بنحو عام أنني لم أستطع أن أجد فيه أي قيمة مضافة، لا على المستوى الدلالي لهذا المصطلح، ولا على مستوى البحث السياقي أو الوظيفي.

فإذا كانت غاية الكتاب _ كما يؤكد ذلك عنوانه_ الوصول إلى جواب يتضح من خلاله مدلول السلفية ويتحقق بها تمايز هذا المفهوم عن المفاهيم المقاربة له فالكتاب أخفق في هذه الوظيفة الأصلية. فالقارئ يخرج من الكتاب لا يعرف ما العناصر التي تشكّل التمايز السلفي عما سواه، ولا يستطيع تاليًا أن يميّز السلفية عن المفاهيم المحايثة لها، لا سيما "الوهابية" و"الحنابلة" التي كان الكتاب تائهًا جدًا في التعامل معهما، وهذا التيه في الاستعمال نتيجة طبيعية لفشل الكتاب في وضع حدود واضحة بين هذه المفاهيم أو بيان طبيعة العلاقة فيما بينها في الحد الأدنى. ونتيجةً لفشل الكتاب في تحقيق هذه المهمة فإنه لم يعد واضحًا ما يقصده بشارة مثلاً حين يقول عن شخص إنه "حنبلي غير سلفي" مع أنه لم يسبق قط في الكتاب أن وضع حدودًا واضحة بين مفهومي الحنبلي والسلفي!

ومن مظاهر إخفاق الكتاب في تحديد الجوهر السلفي أنه يعطي السلفية خصائص متوافرة في غيرهم، أي أنه يجعل رأيًا معينًا من خصائص الفكر السلفي، في حين هو مشترك بينهم وبين غيرهم، فمثلاً يرى في ص91 أن من خصائص السلفية "اعتبار المواطنين غير المسلمين ذميين". وهذا الحكم معلوم لأي مطلع على الفقه الإسلامي أنه ليس من خصائص السلفية، بل هذا ما يراه معظم فقهاء المسلمين من مختلف المذاهب، وإخفاق الكتاب في تحديد خصائص السلفية هو انعكاس مباشر لعدم وضوح مدلول السلفية لدى الكاتب.

كما أنَّ الكتاب أخفق في قضية منهجية أخرى، وهي بيان تأثير المحطات التاريخية المختلفة على التطوّر الدلالي لمصطلح السلفية، وبذلك يتعذّر معرفة الدلالة السياقية لهذا المصطلح. كما أنه لم يوضح العلاقة بين الرموز التاريخية التي تنتسب لها الوهابية _ كالإمام أحمد وابن تيمية_ بالفكر الوهابي، فهو تارة ينفي العلاقة وتارةً يتردد في ذلك وتارةً يذكر فارقًا عرضيًا مفاجئًا، فيخرج القارئ من هذا الكتاب لا يعرف إن كان يشكّل الإمام أحمد أو ابن تيمية امتدادًا أيدلوجيًا أو ابتسمولوجيًا مع الوهابية أم لا.

والكتاب عمومًا يعاني من إشكالية تأسيسية _وهي موجودة في المجلدين الثاني والثالث من كتاب الدين والعلمانية وفي كتاب المسألة العربيّة_ تتمثّل في أنه يستعرض معلومات أكثر مما يبني أفكارًا، أي أنه لم يبنِ أفكارًا بناء تأصيليًا، بل كانت معلومات متناثرة لا تمتلك نسقًا منهجيًا واضحًا، فهو لا يبدأ الحديث عن فكرة إلا ويقفز لغيرها أو لجانب مختلف من جوانبها دون أن يتم ما كان فيه، فبالنسبة لي، لم أجد له قط _في هذه الكتب_ فكرة واحدة استطاع بشارة بناءها وإتمامها، بل ما يتركه غامضًا أكثر مما يتركه واضحًا. وقد ساعد على هذه العشوائية في الطرح أن عزمي بشارة _ فيما يبدو_ يشغل تفكيره نقد الآخرين أكثر مما يشغله تأصيل أفكاره.

الإسقاطات الأيديلوجية

من إسقاطاته الأيديلوجية المتطرفة أنَّه كان مهووسًا بالبحث عن أي جذور علمانية في أي رأي فقهي أو أصولي، مما جعله يقع في تكلّفات يدركها أي متخصص في الشريعة أو يمتلك الحد الأدنى من الموضوعية. ومن ذلك تفسيره لعبارة "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" حيث يقول: "هذا يعني أن ثمة ما لم يزعه الله بالقرآن، وهناك ما يجب تقوم به الدولة خدمةً للحق مما لم يزعه الله في القرآن. ثم يقول: "ولا تصلح مقولة ابن تيمية هذه في خدمة الدولة للدين، بل تصلح أيضًا لشرح التمايز بين الدين والدولة". ص150

هذا إسقاط أيديلوجي واضح، فالمقولة لا تقول أكثر من أن الدين باعتباره قانونًا أخلاقيًا ليس كافيًا لإدارة الاجتماع الإنساني، بل يجب أن تكون هناك قوة مادية تجبر الناس على الالتزام بهذا القانون. فالإسلام يحرّم مثلاً السرقة، لكن هذا التحريم ليس كافيًا لتجنيب المجتمع جريمة السرقة، بل لا بد من أن ينعكس هذا المنع الشرعي بصورة قوة مادية تمنع الجريمة من الوقع، فالتعويل على الرقابة ليس كافيًا.

إذن القضية كلها تتمثل في إضافة عنصر القوة المادية على الوازع الداخلي ليتكامل الأمن المجتمعي، فكيف استنبط من ذلك عزمي أنها تأسيس لفكرة التمايز بين الدين والدولة؟ ليس في هذه العبارة أي لفظ لا منطوقًا ولا مفهومًا يدل لا من قريب ولا من بعيد على هذا المعنى الذي اخترعه عزمي بإكراه أيديلوجي وبأثر رجعي.

ومن محاولاته الأخرى أنه جعل رفض ابن حزم للقياس دليلاً يمكن أن يُتكأ عليه في بناء موقف علماني في السياق الإسلامي! وهذا إخراج للفكرة من سياقها الأصولي الصرف وتحميلها أعباء أيديلوجية بأثر رجعي، إذ إن نفي القياس استبدله ابن حزم بالاكتفاء بالظاهر، والظاهر مليء بالأحكام السياسية والاقتصادية التي يطالب ابن حزم نفسه الدولة بالقيام بها.

ونفي القياس والتمسك بالظاهر له علاقة بآلية البحث وليس بمجال البحث، فبدلاً من الوصول إلى الحكم الشرعي عبر آلية القياس يصل إليه عبر آلية الظاهر واستصحاب البراءة الأصلية، وإشكالية العلمانية مع الأديان ليس في آليات بحثها وأدواتها الاستنباطية، بل في المجال التداولي لأحكامها، إذ كل دين يزعم أنَّ له أحكامًا في المجال السياسي فهو على الضد من العلمانية بصرف النظر عن منهج استنباط تلك الأحكام، وهذا ما أكدته الفيلسوفة الفرنسية كاترين كنسلر، حيث ذكرت أن معارك العلمانية لا تكون إلا مع الأديان التي لها تشريعات متعلقة بالشأن السياسي: "العلمانية لا تواجه الأديان إلا عندما تطمح إلى التشريع، فالمواجهة ليست بين الملل الموضوعية والعلمانية، بل بين الملل في شقها المدني والعلمانية. فالنتيجة إذاً هي أن دينًا محددًا بأقاويل محمّلة بالتشريع يجعله لا يتلاءم بتاتًا مع العلمانية".

ومن إسقاطاته السطحية أنه يجعل لقب "الوالد" الذي يطلقه السلفية على ابن باز مثلاً مشابه للفظ "البابا" الذي يطلقه المسيحيون؛ فقط لوجود تشابه لفظي، مهملاً كل الفوارق في الاستعمالين، فمن المعلوم أن لفظ "الوالد" شائع في الخليج، ويطلقه أهل الخليج حتى على كبار السن دون أي ارتباط بمستوى تدينهم فضلاً عن مستوى تموضعهم في المعرفة الشرعية، ولذلك لفظ "الوالد" هو لفظ ذو دلالة سوسيولوجية صرفة لا يستبطن أي عناصر دينية، فهو على النقيض تمامًا من مصطلح "البابا" ذي الدلالة الدينية الصرفة، والذي لا يستبطن أي عناصر سوسيولوجية.

ومن إسقاطاته أنه سعى لجعل الحركة الوهابية عمقًا تاريخيًا لعداء التيار القومي العربي لتركيا، فقد عاب على الإسلاميين اعتراضهم على القوميين العرب لمعاداتهم للأتراك مع كون الحركة الوهابية سبقتهم إلى ذلك، يقول عزمي: "الطريف أن الحركات الإسلامية في هجومها على التيار القومي العربي وموقفه من الحكم التركي تتجاهل حقيقة أن أول من حارب السلطان العثماني، بل الأتراك، داخل الأمة هو الوهابية". ص160

لكن عزمي يغفل فارقًا جوهريًا في هذه المقارنة، إذ إن الوهابية حين عادوا الأتراك لم يكن ذلك لسبب عرقي ثقافي، بل كان لسبب متجاوز ذلك إلى الدين نفسه، ونتيجةً لذلك كان "العرب" وليس الأتراك هم أكبر ضحايا الحركة الوهابية، فالوهابية قبل أن يعادوا الاتراك عادوا العرب، ولم يقتلوا من الأتراك واحدًا بالمئة ممن قتلوهم من العرب، فمعاداة الوهابية للأتراك تأتي في سياق معاداتهم لكل من لا ينتمي إلى دعوتهم، سواء أكانوا عربًا أم تركًا.

دعاوى أكبر من براهينها

من إشكالات الدكتور عزمي أنه يطلق دعاوى كبرى دون أن يبرهنها، فهو لا يكلّف نفسه عناء سد الفجوة الاستدلالية بين مقدماته ونتائجها، فمثلاً يقول عزمي بشارة ص75: "يعتمد السلفيون على الأحاديث النبوية على نحو أساسي للانتقال من الأحكام العام للشريعة إلى تطبيقها على الحالات الخاصة. وبذلك أصبح الحديث النبوي أو ما عُدَّ حديثًا نبويًا _ وكل مروياته التي وصلتنا من التابعين بدرجة رئيسة هو المنهج في الحقيقة، وحيثما قصر عن تلبية الغرض (إذ إنَّ الأحاديث المنقولة المسماة بالصحيحة لا تجيب عن كل قضايا الحياة) فالحل هو _ بدلاً من إعمال العقل في استنتاج الأحكام من قيم الدين ومقاصده_ وضع الأحاديث التي تجيب عن حاجات المرحلة التاريخية أكانت من وضع الفقهاء أم من وضع السلطات السياسية".

ثم سعيًا لبرهنة ما سبق يقول: "ولا أدل على ذلك من أن أبو يعلى في طبقات الحنابلة يشير إلى أن أصحاب ابن حنبل نسبوا إليه أكثر من مرة أنه كان يحفظ سبعمئة ألف حديث، بل كان يحفظ ألف ألف، لكنه لم يخرج في مسنده أكثر من ثلاثين ألف حديث، بل أقل منها إذا ما حُذف المكرر".

وهذه الفقرة أبعد ما تكون عن الطرح العلمي الموضوعي، فهي عبارة تنطق باتهام عريض لعموم السلفية بأنهم يضعون الأحاديث ويخترعونها دون أن يُذكر أي دليل يثبت هذا الاتهام الكبير.

والحقيقة أن هذا الاتهام يتضمّن مغالطة سطحية، فهو يعتقد أن قول أحد الحنابلة إن الإمام أحمد يحفظ مليون حديث، في الوقت الذي لا نجد أحمد يذكر في مسنده سوى ثلاثين ألف حديث، أن ذلك يدل على أن الحنابلة اخترعوا من عندهم بقية الأحاديث الزائدة عن الثلاثين ألفًا!

وهذا تحميلٌ للنص بما لا يحتمل، فلا يعني نسبة هذا الرقم إلى أحمد بن حنبل أنهم وضعوها عليه، فقد يكون هذا ما اعتقدوه لكثرة ما يحفظه أحمد لا سيما أن أصحاب أحمد يبالغون أحيانًا في مثل هذه السياقات، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم اخترعوا من عندهم من الأحاديث ما يوازي ذلك الرقم.

أي أن الإمام أحمد نظرًا لحفظه الواسع للأحاديث والآثار اعتقد أصحابه أن تلك المحفوظات تصل إلى مليون حديث، وهذا الاعتقاد ليس بالضرورة ينعكس في عملية اختراع لأحاديث بهذا الرقم! ثم إذا كان السلفيون اخترعوا هذه الأحاديث ووضعوها أين هي؟ لا توجد مدونة ولا مجموعة مدونات تتضمن هذا الرقم، وهذا يدل على أنهم كانوا يخبرون عما يعتقدون لا عما يعرفون.

مثال آخر على الفجوات الاستدلالية في حجج الدكتور عزمي أنه يتهم الدعوة الوهابية بأنها "تتضمن ادعاء نبوة مضمرًا". وهذا الاتهام للدعوة الوهابية بإضمار ادعاء النبوة كله مبني على مقدّمة واهية، وهي أنهم يصفون المجتمعات السابقة بأنها جاهلية، ويدعون أنهم مجددون. والدعوة الجديدة _ في نظر عزمي_ بعد مرحلة الجاهلية ليست سوى إضمار لدعوى النبوة.

يقول عزمي: "يتلخص ادعاء النبوة في ثلاث نقاط: وصف الواقع بالجاهلية، أن الرشد لم يتبين من الغي وتاليًا هناك حاجة لدعوة جديدة، إلغاء مختلف الشفاعات والوساطات".

ثم يقول عزمي: "إن من يتحدث عن جاهلية جديدة يفرض رسالته من حيث لا يدري بوصفها نبوة جديدة".

والحقيقة أنَّ هذه المبالغة من عزمي ناتجة عن عدم التفاته إلى فكرة "التجديد" التي أقرتها الروايات النبوية وارتضاها العلماء المسلمون عبر التاريخ بمختلف مذاهبهم الفقهية وتياراتهم الأيدلوجية، وفكرة التجديد تستبطن منطقيًا فكرتين: أن الواقع يبلى ويصبح غير مقبول شرعًا، أن الفكرة التي تصلح الواقع فكرة جديدة على وعي المجتمع.

وكون الواقع يبلى ويصبح غير مقبول شرعًا يقتضي أنه أصبح يتضمن عناصر جاهلية، من تخلّف على المستوى الفكري أو على المستوى العملي، وانتشار هذا الخطأ _المستوجب للتجديد_ لا يعني سوى أن الرشد لم يعد هو الحالة المهيمنة ولذلك استحق تدخّل عنصر التجديد.

إذن المسوغات التي ذكرها عزمي لتبرير اتهامه لدعوى الوهابية بأنها تضمر ادعاء النبوة لا تستلزم أكثر من كونهم يمارسون وظيفة التجديد بالنحو الذي يعتقدونه؛ أي أن المسوغات التي ذكرها مسوّغات تستلزم المطالبة بوظيفة التجديد لا بوظيفة النبوة.

 

 

التعليقات

يوجد 1 من التعليقات

غماد عبد ربه

2019-03-01 10:42:17

رد علمي متميز وهو افضل مااطلعت عليه فى الرد على د. بشارة. حقيقية اشكالية اسقاطات د. بشارة الأيديولوجية واضحة فى كل كتبه حتى التى لاتناقش بالاساس موضوعا دينيا. فمثلا فى كتابه عن عرب الثمانية وأربعين فى فلسطين يصف الولاء اليني بانه طائفية حينما يكون الولاء الاسلام. وهو ادتعريف غريب جدا. للاسف د. بشارة اخذ حجما اكبر بكثير من حجمه بسبب قناة الجزيرة التى كانت تستضيفه سابقا كثيرا ودائما يكون ضيفا وحيدا فيقول ما يشاء ولايرد عليه احد. نريد المزيد من هذه الردود العلمية الحيدة من د. ابن نهار