فك الارتباط الفلسفي بين ابن طفيل وابن رشد وسبينوزا
اسم الكاتب : د.نايف بن نهار
المشاهدات : 2554
اطلعتُ على تراث الفيلسوف الهولندي سبينوزا في وقت مقارب لاطلاعي على تراث الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل وتلميذه المشهور ابن رشد الحفيد. شدّني وجود تقاطعات مهمة في التراثين مما جعلني أسأل فعلاً: هل يمكن أن يكون ابن طفيل أو تلميذه ابن رشد سلفًا لسبينوزا في فصله بين الدين والفلسفة؟
أما موقف سبينوزا من الفصل بين الدين والفلسفة من حيث الآلية والماهية والغاية، فهذا أمرٌ لا يرتضيه ابن رشد أبدًا، فإذا كان سبينوزا يرى أن الدين متوجه للعاطفة ويبتغي الطاعة، فإنَّ ابن رشد يرى أنَّ الدين متوجه لكل الطبقات المعرفية، وهو في النهاية يبتغي الحق. يقول ابن رشد: "وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع هو تعليم العلم الحق والعمل الحق".[1] وهذا خلاف ما عبّر عنه سبينوزا صراحةً حين قال: "وإذن فالإيمان لا يتطلّب عقائد صحيحة، بل عقائد تؤدي إلى الطاعة".[2] فهو يرى أن غاية الأديان ليست إيصال الإنسان إلى الحق، بل غايتها أن يكون إنسانًا طائعًا خاضعًا؛ وتحقيق هذه الغاية لا يستلزم وجود عقائد صحيحة دائمًا.
لكن الأكيد أنَّ أتباع ابن رشد في الغرب تجاوزوا ما قاله ابن رشد إلى إيقاع فصل حقيقي بين الفلسفة والدين، فهم "لم يأنفوا من التمييز بين العقل والدين، وعندهم أنَّ للعقل حقلاً وللدين حقلاً، وحقل العقل هو حقل الاقتناع الصير، أما حقل الدين فحقل الإيمان الذي يخرج عن نطاق البصيرة، وعليه فالسبيل الأوحد إلى الحقيقة هو سبيل العقل، أما ما يعلمه الوحي من آيات الله فخارج عن نطاق العقل".[3]
هذا من حيث الأصل، أما من حيث التفصيل فإننا نجد ابن رشد يتقاطع مع سبينوزا في بعض مقالاته، فصحيحٌ أن ابن رشد يرى أن الشرع يبتغي الحق، لكن ممن يبتغيه؟ هل يبتغيه من الجميع؟
الجواب: لا. فابن رشد يعتقد أن الشرع لا يبتغي الحق من الجميع، بل يبتغيه حصرًا من الفلاسفة "أصحاب البرهان". أما العامة فقد قدّم لهم أدلة خطابية لتوافق أفهامهم، وأما علماء الشريعة عمومًا فقد قدَّم لهم الشرعُ أدلةً جدلية هي أقرب للحق ولكنها ليست الحق عينه، فالحق عينه قد خصَّه الله تعالى للفلاسفة وحدَهم. وبناءً على ذلك فإنَّ الخطاب القرآني يختلف باختلاف المتلقي، وهذا يستلزم أنه ليس صحيحًا في ذاته، بل صحيحًا باعتبار المتلقّي. فالظاهر صحيح، لكن للعوام وليس الفلاسفة، والباطن صحيح لكن للفلاسفة وليس للعوام.
موقف ابن رشد هذا يجعله متحدًا مع سبينوزا في النتيجة الخطيرة التي مفادها أنَّ للشرع ظاهرًا وباطنًا، وأنَّ الظاهر لا يُراد به الحق، وإنما يراد به الطاعة، يقول ابن رشد: "انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن، فإنَّ الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان".[4]
لكن ابن رشد _كما سبق_ يختلف مع سبينوزا في أنَّ الشرع يتضمن حقًا ويخاطب عقلا، لكنه حصرًا للفلاسفة أهل البرهان، ولا يجوز "أن يُصرَّح به لأهل الجدل فضلاً عن الجمهور"[5] في حين لا يرى سبينوزا أنَّ الشرع متضمن أي حق ولا متجهًا إلا للعاطفة،[6] وهذا مورد التباين الحقيقي بين الرجلين.
ملحوظة: هناك فرق بين القول بتنوّع الخطاب القرآني الذي يؤمن به عموم المسلمين والقول بتباين الخطاب القرآني الذي يؤمن به ابن رشد. ففكرة تنوّع الخطاب القرآني قائمة على أنَّ الآيات القرآنية ليست سواءً في ظهور المعنى وجلائه، فثمة آيات ظاهرة المعنى يفهمها الجمهور، وآيات يفهمها العلماء كلٌّ في تخصصه نظرًا لخفاء معناها النسبي. لكن فكرة ابن رشد مختلفة عن ذلك، فهو يقصد أن الآية نفسها لها معنيان، ظاهر للعامة ، وباطن للفلاسفة، في حين عموم المسلمين يقولون إن الآية الواحدة ليس لها إلا معنى واحد، فإن كان معنى ظاهرًا جليًا فهمه الجميع، وإن كان دقيقًا فلا يدركه إلا العلماء. والذي يبدو أن ابن رشد استمد أصل الفكرة من أفلاطون، كما أجد ذلك واضحًا فيما نقله عنه في كتابه "تلخيص السياسة".[7]
هذا عن ابن رشد، فماذا عن ابن طفيل؟
يؤمن ابنُ طفيل بأنَّ للشرع مرادين، مرادًا يُخاطب به عموم الناس، الذين يألفون الظواهر من الأمور، وينفرون من دقائق الأفكار والإشارات، ومرادًا يتوجه إلى النخبة فقط، وهم الذين لهم استعدادٌ فطري ومعرفي في إدراك الأفكار الكبرى.
وقد عبّر ابنُ طفيل عن ذلك من خلال قصة الصديقين حي ين يقظان واسأل، حين حاول حي بن يقضان أن يذهب إلى الجزيرة التي يعيش فيها اسأل ليكشف لهم عن الحقائق البرهانية الكبرى التي كان قد تعقّلها في خلوته وعزلته في جزيرته. لكنه أخفق في مهمته. فعلى الرغم من أن الناس كانوا صالحين ملتزمين بالأحكام لكنهم نفروا من الأفكار التي طرحها حي بن يقظان؛ لأنَّ عقولهم لم تعتدها، ولذلك قرر حي بن يقظان أن يتركهم على ما هم عليه، وألا يحاول إعطاءهم من الحقائق ما يفوق قدراتهم الاستيعابية.
ثم بعد أن كشف ابن طفيل هذه الفكرة ذكر أنَّ ذلك هو "من العلم المكنون الذي لا يقبله أهل المعرفة بالله، وقد خالفنا فيه طريق السلف الصالح في الضنانة به والشح عليه، إلا أنَّ ذلك سهل عليها إفشاء هذا السر وهتك الحجاب ما ظهر في زماننا هذا من آراء فاسدة".[8] ثم يطلب من إخوانه أن يسامحوه "فيما تساهلتُ في تبيينه".
فما الذي يعدُّ من العلم المكنون الذي خالف فيه ابن طفيل طريق السلف الصالح؟ وما الذي ما كان له أن يتساهل في تبيينه ثم فعل؟
الجواب أنَّ ما يعتذر ابن طفيل لإخوانه على كشفه هو الأمر ذاته الذي أنكر ابن رشد على الغزالي كشفه، وهو الخطاب الخاص الذي لا يصلح إطلاقًا أن يطّلع عليه العامة.
إذن الجامع المشترك بين ابن طفيل وسبينوزا أنَّ كليهما يعتقد بأنَّ خطاب الشرع في الظاهر موجه للعامة، وأنَّ محاولة كشف الحقائق للعامة يعدُّ أمرًا غير محمود؛ لأنَّه سيشغب على العامة إيمانهم. ويبقى الفارق بين الرجلين هو الفارق عينه بين سبينوزا وابن رشد.
نشير أخيرًا إلى أن هذا المذهب الفلسفي القاضي بمنع كشف الحقائق عن العامة هو ما تبناه بعض المعاصرين، كالمفكر الإيراني عبدالكريم سروش، حيث يقول: بما أنَّ معظم الناس ليسوا من أهل التحقيق والتحليل ولا من أهل الفكر وإنتاج الأفكار بل يعيشون على استهلاك الأفكار عادةً، فهم مشترون أكثر من كونهم محققين، فجاء الأنبياء وملأوا هذا الفراغ، وقدموا متاعهم مجانًا لهؤلاء الناس، ولذلك فإنَّ خطاب الأنبياء موجّه لغالبية الناس وهو أنكم في حال فقدانكم لهذه الأمور وعدم إمكانكم إنتاج مثل هذه الأفكار والتعاليم فتعالوا وخذوها منا مجانًا".
هذا الخطاب الموجه للعامة، فماذا عن الخطاب الموجه للعلماء والمفكرين؟ يجيب سروش على ذلك بقوله: "أما خطاب الأنبياء للحكماء والعلماء فهو إذا تحركتم في أعمالكم وفقًا لعقولكم وبعيدًا عن الطمع والأهواء فإننا نضمن لكم أن عملكم هذا سيكون محبوبًا لله تعالى".[9]
[1] ابن رشد، فصل المقال، ص115
[2] المرجع السابق، ص 349
[3] ميخائيل، توما الأكويني، مرجع سابق، ص39.
[4] ابن رشد، فصل المقال، مرجع سابق، ص109
[5] المرجع السابق، ص119
[6] هذا المذهب _أعني القول بغائية الطاعة بدلاً من الحق_ نجده عند الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون حيث ذكر أن الأنبياء "لم يسعوا في التأثير في عقول البشر، بل في نفوذ مشاعرهم وكسب قلوبهم". لوبون، جوستاف، روح السياسة، ترجمة عادل زعيتر (القاهرة، مكتبة النافذة، ط1،2015) ص45.
[7] راجع: ابن رشد، تلخيص السياسة، ترجمة: حسن العبيدي (دمشق، دار الفرقد، ط2، 2011) ص141
[8] ابن طفيل، حي بن يقظان، تحقيق: فاروق سعد (ط6، 1995) ص235.
[9] راجع: سروش، التراث والعلمانية، ترجمة أحمد القبانجي (بيروت، الانتشار العربي، ط1، 2004) ص103.
التعليقات
يوجد 0 من التعليقاتلا يوجد تعليقات