قراءة سيكوثقافية في مقولة: "وَيَكْفُرْنَ الْعَشِير"


اسم الكاتب : أ.عدنان معتوق

المشاهدات : 3657

يحاولُ كلُّ متخصصٍ أن يقترب من النصوص بأدوات معرفية تُميِّز المجال المعرفيّ الذي ينطلق منه، فعلى سبيل المثال يهتمُّ اللغويُّ بالبناء البيانيّ للنَّصّ والمفردات، بينما المتخصص في علوم التاريخ له إستراتيجية مغايرة تمامًا في طَرق باب النَّصِّ عمَّا عند المختص في اللسانيات، هذه المجالات المعرفية ما هي إلا مساهمات جادة في نقض الإدراكيات السطحية والفهوم المقولبة والمنمَّطة الناتجة عن التنشئة المجتمعية تجاه النصوص المليئة بالمعاني؛ ومن هنا تأتي محاولة الكاتب في موضعة النص النبوي {وَيَكْفُرْنَ الْعَشِير} في سياق سيكوثقافيّ.

وتعتزم المقالة فرادتها الفنية في تناول أمثال هذه النصوص لِعلَّة اهتمامها بالدور الثقافي في تكوين الفرد وبنائه؛ لأن أحد أهم محاور علم النفس الثقافي عنايته بالدور الثقافيّ في التركيب النفسيّ للإنسان، ومقولة: {وَيَكْفُرْنَ الْعَشِير} مُستلَّة من نَصٍّ نبويٍّ يستعرِض فكرتين، الأولى: كثرة النساء في النار، والفكرة الثانية: كُفْرَان العَشير باعتبارها عِلَّة لدخول النار، وللحرفية التخصصية وتحري الدقة العلمية سيُركِّز هذا المقال على المحور السلوكيّ في حديث (كُفْرَان العَشير)، ويتجنب الجانب الثيولوجيّ في النَّصِّ لمتخصصٍ في ذات العلم، على أن التخَصُّصَيْنِ هنا يجب ألا يتناقضا، وهذا يعود لقدرة توظيف المقال للنظريات النفسية في الحقل الدينيّ، ومن هذا المنطلق تحاول المقالة التفاعل مع عددٍ من الأسئلة الشائكة في فهم العلاقة بين السلوك والثقافة والبيولوجيا، ووجه علاقة الدين بهذه العلاقات المركبة، على سبيل المثال يرتبط السلوك ارتباطًا وثيقًا بالإدراك كما يصف علم النفس المعرفيّ، وهو أيضًا ذو صلة بما يُدعَى بـ "التصورات الثقافية الإدراكية"  كما يصف علم النفس الثقافيَ؛ ومن هنا كان لِزامًا فهم طبيعة التفاعل بين التصورات الإدراكية والسلوك؛ من أجل فهم دور الثقافة في تشكيل سلوك الأفراد، وهذا الإدراك والتصورات أحد وظائف العقل.

وفي سياق علم النفس الثقافيّ يقترح كلٌّ من كلارك وتشالمرز (١٩٩٨) مفهومًا جديدًا للعقل، وهو أن إدراك الإنسان لا يحدث في فراغ تام من المحيط، بل إن البيئة ذات دور محوريّ لعمل العقل، هذا العقل المرتبط بالمحيط هو "العقل الممتد"، وفيه يصفون كيف أن العقل البشري مرتبط بالكيانات الخارجية (external entities) وهذا الارتباط ذو تفاعل ثنائي ينشأ عنه نظام معرفيّ، وطبيعة العلاقة بينهما تعتمد على المصادر الجوَّانية المتمثلة في "الدماغ"  والمصادر البرَّانية المتمثلة في "المحيط/البيئة"،  كما أن هذه المصادر تقود إلى مدركات مشروطة بنوعية المصادر البرَّانية؛ وبذلك يكون العقل الممتد (external mind) حساسًا لمعيارية البيئة الثقافية ودورها في توجيه وإدارة العمليات المعرفية، ونمو وتطور العقل الممتد يحدثُ من خلال العناصر الخارجية في تلك البيئة. ولأن الواقع الذي يعيشه الفرد متحيز بامتياز[1]، ورؤية الأشياء على حياديتها غير ممكن؛ كان العقل الممتد خاضعًا لآليات الثقافة وأُطُرِها، ولأن الإدراك مسيطر على السلوك بناءً وتأثيرًا، وأن الثقافة سابقة للإدراك ومشكِّلة له من خلال العقل الممتد، نكون قد خطونا خطوة أولى نحو فهم دور الثقافة في تشكيل سلوكيات أفرادها.

العلاقة بين السلوك والإدراك ليست ذات اتجاه واحد بل هي علاقة تفاعلية، ففي حين يؤثر ويشكل الإدراك سلوك الفرد، يُعَمِّقُ هذا السلوكُ الإدراكَ أو يُهَمِّشُه أو يجعل دوره في حياة الفرد مُحايدًا، وبغرض الاختصار ستنحسر المقالة في وصف كيفية ترسيخ الإدراك من خلال السلوك، تحدث عملية ترسيخ المعتقدات والمُدرَكات عن طريق عدد هائل من الآليات في علم النفس، ومن أحد هذه العوامل عملية التبطين(internalization)، وأول من أسس مفهوم التبطين هو ليف فيغوتسكي في كتابه "العقل في المجتمع" عام (١٩٧٨). وصفَ فيغوتسكي عملية التبطين في ثلاث مراحل من التحولات السيكولوجية، المرحلة الأولى: تبدأ كعملية ترمز مبدئيًّا لنشاط سلوكيّ خارجيّ يُعاد بناؤها وتشكيلها جوانيًّا، ويمثل لذلك بسلوك الإشارة، فمثلاً حينما يحاول الطفل الحصول على شيء ما، فإنه يبدأ بالمحاولة في مدِّ يده (الإشارة نحو الشيء) ومحاولة التقاطه (سلوك يمثل نشاطًا للحصول على شيء خارجي)، وحين تقترب الأم من طفلها فإن محاولة التقاط ذلك الشيء تتحول من محاولة الوصول إلى الهدف إلى لغة تواصلية مُحَمَّلة بكَمٍّ هائلٍ من المشاعر والإقناع للأم بأن تقوم بتقديم ذلك الشيء لطفلها، ومن هنا تتحول العوامل الخارجية إلى رمزية في تشكيل الجوانيّ من خلال عملية التبطين.

ثم تنتقل عملية التبطين من الترميز إلى الوظائف السيكولوجية، تحدث كل وظيفة في النمو السيكوثقافيّ في حياة الطفل على مستويين، الأول: المستوى الاجتماعيّ (interpersonal process)، والثاني: المستوى الشخصيّ (intrapersonal process). أي إن تفاعلات الطفل الاجتماعية تتحول من تفاعل بينه وبين الآخرين ــ أبويه على سبيل المثال ــ إلى تفاعلات نفسية جوانيَّة؛ وبذلك تؤثر على التنشئة النفسية للطفل. أحد أهم الأمثلة التي تصف التحول من المستوى الاجتماعيّ (الخارجيّ) إلى المستوى الشخصيّ (الجوانيّ النفسيّ)، تتمثل في النمو اللغويّ لدى الأطفال، فمثلاً وجدت دراسة بأن الفرد حينما يواجه مشكلة ويحاول حلَّها فإنه يستنجد باللغة للتغلُّب على المشكلة، وهذه أحد الدلائل على ارتباط اللغة بالإدراك، يلجأ الأطفال في سنٍّ مبكرةٍ فقط لنوع واحد ومحدد من اللغة، هذا النوع هو اللغة التواصلية (socialized speech) التي يحاول الطفلُ من خلالها وصف المشكلة للآخَر ــ لأبيه مثلاً ــ بحثًا عن حل، ولكن الأطفال في تلكم السن يظلون عاجزين عن ممارسة اللغة الذاتية/المركزية (egocentric speech)، وأعظم انتقال يحدث في تطور النمو اللغوي عند الأطفال حين تتحول اللغة من وظيفة تواصلية اجتماعية إلى وظيفة تخاطب ذاتيّ مركزيّ، في هذا السياق يتواصل الطفلُ مع ذاته بدلاً من التواصل مع الأفراد من حوله، هنا تتخذ اللغةُ دورًا جوانيًّا في تشكيل العالَم النفسيّ للفرد، إضافةً لدورها التواصليّ مع الآخَرين، وهنا يستطيع الطفل ممارسة اللغة مع ذاته (جوانيًّا) للتغلُّب على المشكلات بدلاً من لجوئه للّغة الاجتماعية التواصلية (مع أبويه). وأخيرًا، هذا التحول من المستوى الاجتماعيّ (الخارجيّ) إلى المستوى الشخصيّ (الجوانيّ) يكون نتيجةً لمراحل نمو تطورية تحدث من خلال سلسلة طويلة من التحولات السيكولوجية، فحينما يبدأ الأطفال في ممارسة اللغة الذاتية/المركزية، فإنهم يقومون بإسقاط الآليات والطرق السابقة التي كانوا يستخدمونها من قبل في ممارسة اللغة التواصلية مع الآخرين، إلى عالَمهم الجوانيّ (مع ذواتهم)، وحينما ينظمون أنشطتهم بناءً على الأنماط السلوكية الاجتماعية، فإنهم ينجحون في تطوير طريقة شبه جديدة يُشكِّلون بها سلوكياتهم، وينجحون أيضًا في تبطين المواقف الاجتماعية وجعلها جزءًا من هويّتهم وتكوينهم النفسيّ. لا بد من تصوُّر هذه المراحل الثلاث في نطاق تاريخ نفسيّ للفرد، وأن هوية ونفسية الفرد في اللحظة الراهنة ما هي إلا نتيجة نفسية لهذا التاريخ المليء بإجراءات التبطين للمفاهيم والمواقف الاجتماعية من حولنا.

وهنا تبرز لدينا أحد أهم الأسئلة الرئيسية، وهو: ماذا لو تم تغيير ثقافة الفرد التي نشأ فيها؟ وما علاقة تغيير الثقافة بطبيعة شخصية الأفراد وتركيبتها أو تكوينها؟ حينما نتحدث عن الشخصية فنحن نشير إلى الخصائص النفسية التي تُسهِمُ في تطوُّر الفرد ونموه، وتحديد الأنماط والصفات التي تُميِّز الفرد عن مجتمعه وعن الآخَر في الشعور والسلوك وطبيعة التفكير، وأحد أهم معالم الشخصية ثباتها وديمومتها في الطبيعة البشرية مع بعض الاستثناءات في التغيرات التي تطرأ على الإنسان أثناء حياته، وبذلك كان السؤال: هل الطبيعة الثقافية للفرد مسؤولة عن تركيب وبناء أنماط الشخصية؟ والمثير للانتباه أن البيئة الثقافية تلعب دورًا محوريًّا في تشكل شخصية الأفراد (الشعور، السلوك، نمط التفكير)، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن طبيعة الثقافات الناشئة في بيئة تعاني من شُحِّ مصادر الحياة، كالماء والغذاء، تعزو أهمية قصوى للتكاتُف والتواصل لأعضاء المجتمع كرمزٍ للوفاء، وتعمل أيضًا على تقليص المسافات بين الأفراد؛ وبذلك ينشأ لدينا ما يُسَمَّى بالمجتمعات المتكتلة “collectivism”. وعلى النقيض من ذلك فإن البيئة الجغرافية المليئة بمصادر الحياة تُقلل بدورها من قيمة التكاتُف والتعاون عند أعضاء المجتمع، وتجعلهم يحصرون هذه القيم على أنفسهم ولأفراد أُسَرِهم؛ وبذلك تنشأ لدينا المجتمعات الفردانية “individualism”. هذه الطبيعة البنائية للمجتمعات مسؤولة عن العناصر النفسية كما هي مسؤولة أيضًا عن تشكيل الأنماط الشخصية للأفراد، بل إن التأثير الثقافي يأخذ خطوة أكثر جرأة بمساهمته في التشكيل النفسبيولوجي للفرد، فعلى سبيل المثال، نجد عند دراسة طباع وأمزجة أفراد مجتمع ما تشابهًا متينًا، وتميُّزًا بارزًا ومفارقًا عن المجتمعات الأخرى، هناك ثقافات يتميز أفراد مجتمعاتها بالشخصية العصابية “neuroticism”، وهذا ينتج عن طبيعة المجتمع في محاولة تجنب كل ما هو غامض وغير يقينيّ (Uncertainty avoidance) بدافع القلق، الجزع، الخوف، تقلُّب المزاج، الحسد، الإحباط، والغيرة. هذا التركيب البيولوجي لنفس الإنسان المرتبط بثقافة محددة يُفسَّر بأحد أمرين، الأول: أن الثقافة التجنّبية تُولِّد نظامًا ثقافيًّا يقود إلى تشكيل الشخصية العصابية، أو أنها تُنشِّئ الأطفال على الخوف من الغموض وتجنُّب وبُغض كل ما هو غير يقينيّ.

وحينما نتعامل مع الثقافة فنحن نشير إلى: الثقافة البشرية- خاصة بالإنسان تحديدًا-  كنظام مركب من المعاني والمعلومات، تتفق عليه مجموعة من البشر وتشرعنه وتعمل على نقله للأجيال القادمة، بغرض تحقيق الاحتياجات الأساسية، من أجل المحافظة على الحياة، وتحقيق السعادة والصحة النفسية والبيولوجية، واستمداد المعنى من الحياة؛ وبذلك يلزم أن نحدد ما الفرق بين مفهومَي الثقافة والشخصية؟ وما علاقة كلٍّ منهما بالآخَر؟ فالثقافة هي البناء الاجتماعي للأفراد، بينما الشخصية هي الفروق الفردية للأفراد داخل كل مجموعة، الثقافة هي الإطار النفسي الاجتماعي الذي يحيط بالشخصية، وبذلك تكون الشخصية مجموعة الصفات والخصائص والكفاءات والقدرات الفردية داخل هذا الإطار، فإذا كانت شخصية الإنسان -  شعورًا، وسلوكًا، وإدراكًا – لا تكاد تنفكُّ عن الثقافة، فقد تكون مشاعر الإنسان وطبيعة تفكيره نتاجًا حتميًّا لثقافته، ولأن للإدراك التأثير المباشر على السلوك والعاطفة كان التنقيب عن علاقة- العملية الإدراكية المعرفية “Cognition” - بالثقافة أمرًا محوريًّا، وهذه القضية تحديدًا تكاد تكون موضع إجماع بين علماء النفس؛ لأن الأغلبية منهم يعتبرون الثقافة في ذاتها "عملية إدراكية معرفية"، يتعامل علم النفس مع الثقافة على أنها مجموعة من التمثّلات والتصورات الذهنية عن العالَم، هذه النظرة تجاه الثقافة بوصفها عملية ذهنية ليست إلا نتيجة لتاريخ طويل من الأبحاث والنظريات في علم النفس، فالثقافة هي الرموز التجريدية (معانٍ ومعلومات)، ودور العملية الإدراكية في ذلك ترجمة التجريد المعرفيّ للشعور والسلوك، وعلى أن الجدل قائم في تعريف ماهية الثقافة[2] إلا أن الجميع تقريبًا متفق على أن القيم، والمعتقدات، والمواقف، والمعايير الاجتماعية ما هي إلا نتائج العملية الإدراكية والتصورات الذهنية، ومما يُدعِّم هذا الاتجاه هو إجماع علماء النفس على أن الثقافة ليست مختزَلة في التجربة البشرية، بل حتى الحيوانات لديها ثقافات متنوعة، فالحيوانات كائنات اجتماعية تعمل وتعيش في مجموعات، وفي مجتمع الحيوان شبكات اجتماعية وبناء هرميّ يقبع في أعلاه القادة، ولهم أتباع، وللحيوانات القدرة على التواصل فيما بينها، ومن هنا نرى الثقافة ردة فعل أو إيجاد حل تجاه قضية التكيف، من أجل تحقيق الاحتياجات البيولوجية والاجتماعية، ولكن ما يميز الثقافة البشرية عن الحيوانات هي القدرات الإدراكية المعرفية والتصورات الذهنية، فاللغة التي يستخدمها الإنسان تتميز بتوظيف الرموز واستخدام المجاز في وصف أحاسيس الفرد وأفكاره؛ ومن هنا تصبح الثقافة والعمليات الذهنية وجهَيْنِ لعُملة واحدة.

هذه المقالة حددتْ كيف تُسهِم الثقافة بدورها في تشكيل العالم الجوانيّ للفرد، شعورًا ووجدانًا، فكما يتم إطعام الطفل الغذاء من أجل بناء تكوينه الجسديّ، فالثقافة تطعم أطفالها الشعور والإحساس والمذاق من أجل بناء التكوين النفسيّ، وبذلك يكون للفرد هوية مشروطة بثقافته، ويبني الفرد تصوُّرًا عن ذاته، ثم يمارس هذا التصور في الفضاء العام والخاص، وكيف أن العقل لا يمكن تصوره خارج الفعل الثقافي، ممَّا أدى إلى صياغة العقل الممتد، وبعلمنا أن نمط تفكير الإنسان وسلوكه وعاطفته وشعوره ما هي إلا منتجات ثقافية؛ نُدرِك جميعًا أن سلوك {كُفْرَان العَشير} مُنتَج ثقافي تام، فحينما نعلم أن الثقافة تبني بيولوجية الفرد وتصوغ شخصيته؛ يلزمنا هدم كل الادعاءات القائلة بأن الطبيعة (البيولوجيا) التكوينية للأنثى جِبلّة تمت صياغتها على كُفران العَشير، وكُفران العَشير خلق مذموم وقبيح، وفطرة الله التي فطرَ الناسَ عليها كلها خير، فلا يصح أن تكون طبيعة الأنثى شريرة.

ثانيًا، نحن نعلَمُ أن التنشئة الثقافية وعملية التبطين السيكولوجي لفئة ما من المجتمع مسؤولة عن ضبط التركيبة النفسية لتلك الفئة وتشكيل الشخصية (سلوك، شعور، نمط تفكير)، وكفران العشير سلوك ونمط تفكيرٍ بالدرجة الأولى، قد يكون من السائغ جدًّا أنَّ المجتمع العربي القديم قد نشَّأ الأنثى على قيم ومعايير اجتماعية، جعلتها أكثر عرضة لممارسة سلوك {كُفْرَان العَشير} من الذكور. وسائغ أيضًا أن مقولة: "وَيَكْفُرْنَ الْعَشِير" كانت بارزة في سلوكيات إناث ذلك المجتمع تحديدًا أكثر من الرجال؛ هذا يدفع كلاًّ من الباحث والقارئ لهذه المقالة لإدراكِ نَصِّ كُفران العَشير في سياق سيكوثقافيبنيوي، ومن الإرشادات البحثية المُقترَحة أن يُسهِم البحث في المستقبل القريب بمحاولة اكتشاف العوامل السيكولوجية والثقافية، التي بدورها تجعل الفرد أكثر عرضة للانخراط في سلوك الكُفران، فإذا ما تحددتْ لدينا هذه العوامل عَلِمْنا أن الفرد من ذكر وأنثى قابل لأن يمارس هذا السلوك، ومن هنا نفهم حديث النبيّ - عليه الصلاة والسلام- في سياق توصيفيّ لهذا السلوك تحديدًا في فئة معينة – النساء – توفرتْ فيها هذه العوامل المخولة لبروز هذا السلوك.

وأخيرًا، يلزمني التوضيح بأن المقالة لا تشير إلى أن الفرد ضحية تلك الثقافة التي ينشأ فيها وبها، وإنما الفرد مُنتَج ثقافيّ، وللفرد القدرة الكاملة في تجاوز حدود إدراكات الثقافة التي ينتمي إليها، وباستطاعته أيضًا صياغة سلوكه على الشكل الذي يختار، أي إن الفرد تام المسؤولية عن صياغة ذاته بجانب ثقافته، هذه المسؤولية هي أحد الواجبات الدينية التي أشار لها الحديث، وهي الوعي بالإشكالية الثقافية، ومن ثم محاولة مواجهة هذا السلوك والمساهمة في إعادة تشكيله، ومن هنا نفهم مفهوم التقوى في سياق التحرر من القوى الثقافية والاجتماعية، وتأكيد القيم الذاتية، وتعزيز الإرادة، وتأمُّل النفس البشرية لاكتشاف العيوب الثقافية فيها، وكأنَّ الحديث أتى كمساهمة في إيقاظ هذا الوعي لدى الفرد؛ ليتجنب تلك العوامل التي تقوده نحو هذا السلوك تحديدًا (سلوك الكُفْران).


مراجع

  1. Hutchins, E. (2014). The cultural ecosystem of human cognition. Philosophical Psychology, 27(1), 34-49. doi:10.1080/09515089.2013.830548
  2. Clark, A., & Chalmers, D. (1998). The extended mind. Analysis, 58, 7–19. Fauconnier, G. (1997). Mappings in thought and language. Cambridge: Cambridge University Press.
  3. Vygotsky, L. S. (1978). Mind in society: The development of higher psychological processes Cambridge, Mass.: Harvard University Press.
  4. Matsumoto, D., &Juang, Linda P. (2008). Culture and psychology (4th ed.). Belmont, CA: Wadsworth/Thomson.
  5. Merkin, R. (2006). Uncertainty avoidance and facework: A test of the Hofstede model. International Journal of Intercultural Relations, 30(2), 213-228.

 


[1]- إحدى الخصائص المميزة لعملية الإدراك لدى الإنسان هي إدراكه للأشياء، هذه الخاصية لا تتمتع بها الحيوانات، حينما يحاول الإنسان أن يُدرِك العالَم من حوله فإنه لا يراه في صور أشكال وألوان فقط، بل أيضًا يراه عالَمًا مليئًا بالمعاني والأحاسيس، هذه المعاني والأحاسيس مرتبطة بالاعتقاد والتجربة السيكولوجية والتنشئة الطفولية والحالة الاقتصادية للفرد؛ ومن هنا كان الإدراك متحيزًا للحالة الفردية التي يعيشها الفرد.

[2]- تناول تعريف الثقافة في هذه الورقة مقتصر على إطار علم النفس.

التعليقات

يوجد 4 من التعليقات

عالي القرني

2016-10-27 21:21:01

بداية موفقة دكتور عدنان اجدت وابدعت

د. عزالدين معميش

2016-10-28 10:10:53

أعتقد أن المؤلف يتحدث عن موضوع له تخصصه العضوي المرتبط بعلم النفس التحليلي، ومن التعسف الكبير اختيار جزء من نص نبوي له سبب وروده، ويقوم بإسقاط هذا التحليل في مجاله. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وصف النساء في سياق محدد جدا بكفران العشير، فهو قد جعل الجنة تحت أقدامهن في مجالات أخرى، وحبب إ‘ليه من الدنيا النساء، ووووو...عشرات الأحاديث المكرمة للمرأة، والمخصصة لحديث كفران العشير. أعتقد أن المؤلف لو التزم الدراسة النفسية العامة، دون محاولة إلباسها مضمونا شرعيا لحالفه التوفيقن لكنه هنا ابتعد عن تحقيق المناط. هناك أصول واضحة في جماليات النصوص وسيكولوجية الأفكار وفي الفوارق بينها حسب مجالها التداولي، وينبغي مراعاة ذلك. J’aime · R

د. أيمن صالح

2016-10-31 11:31:11

المقال طويل الذيل قليل النَّيْل، مليء بالاصطلاحات التخصصية التي لا تليق بالقارئ العادي وفوق العادي. وحاصله، بعيدا عن التطويل الممل فيه: أن حديث كفران العشير خاص بالنساء زمن النبوة لأن البيئة العربية إذ ذاك كانت النساء فيها يكفرن العشير، أما اليوم فقد لا يكون هذا صحيحا. هذه النتيجة ممكنة باعتبار تفسير النص بحسب حال المخاطب، وتأثر النص بالبيئة السائدة إبان صدوره، ولكنها موقوفة على أمر مهم لم يتطرق إليه الكاتب - وربما لن يكون بوسعه ذلك - وهو هل فعلا كانت بيئة العرب زمن الرسالة عاملا مؤثرا في ظاهرة كفران النساء لرجالهن. ولماذا لا تكون هذه الظاهرة ظاهرة إنسانية عامة، لا تتوقف على بيئة من البيئات، ولا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بموجبها - مع أشياء أخر - بأن النساء هن أكثر أهل النار، وهذه قرينة على إرادة العموم في جنس النساء إلى يوم القيامة لا في بيئة النص فحسب، ثم إن النبي، صلى الله عليه وسلم، بيّن الكفران المذكور في النص: وهو أن الرجل يحسن إليها الدهر ثم تقول له لم أر منك خيرا قط، والكفران بهذا المعنى (نسيان الإحسان) نشهده عند كثير من النساء حتى في زمننا هذا. وعليه فدعوى الخصوص ببيئة النص في هذا المثال تظل محل إشكال. ولا سيما أن الأصل في النصوص عمومها في الأزمان إلا إذا ثبت الخصوص، وهو ما لم يستطع الباحث إثباته ولا مقاربة ذلك. أما كون كفران العشير ربما يشمل الذَّكر أيضا، فهذا مفروغ منه أصوليا، لأن الحكم يدور مع علته بغض النظر عن الجنس، ولأن الأصل أن خطاب الرجال يعم النساء والعكس إلا بقرينة تدل على الخصوص. المقال في نظري يعد مثالا جيدا: 1) التفيهق والتطويل مع قلة الثمرة والحاصل، (كثرة المرق وقلة الدسم)، وهي سمة ظاهرة في كثير من الكتابات المعاصرة. 2) الخلط غير السوي بين العلوم، (أصول فقه النص، وعلم النفس) 3) والإغراب والتعقيد بقصد الإقناع، (أنا لا أفهم هذا فربما يكون صحيحا).

د. مطيع عبدالسلام عزالدين السروري

2022-06-03 11:34:19

المقال رائع جدا، وكاتبه مسيطرا على مفاهيمه بشكل عميق ويستحق الإشادة، بارك الله فيه وله فيما يعلم، واستدراكه في آخر فقرات المقال (بأن الفرد ليس ضحية الثقافة) أكثر روعة. ومع ذلك فهذا الاستدراك يحتاج وقفة واسعة بسعة المقال على الأقل وليس في فقرة بسيطة كخاتمة للمقال لما لهذا الاستدراك من أهمية قصوى في سياق الرؤية الإسلامية لإضاءة مسؤولية الفرد في الحياة. برأيي، لا يكفي التصريح تعميما بأن (للفرد القدرة الكاملة في تجاوز حدود إدراكات الثقافة التي ينتمي إليها . . . –وأن—الفرد تام المسؤولية عن صياغة ذاته بجانب ثقافته)، بل الموضوع يحتاج تحليل منهجي لقدرة الفرد الكاملة لتجاوز إدراكاته الثقافية و مسؤوليته التامة عن صياغة ذاته مثلما تم تحليل علاقة الفرد بثقافته بشكل تحليلي باستخدام مفاهيم علم النفس الثقافي: الإدراك، السلوك، العقل، العقل الممتد، المحيط/البيئة، البيئة الثقافية، النمو اللغوي، المستوى الإجتماعي (الخارجي)، والمستوى الشخصي (الجواني). لعل الكاتب الفاضل يتناول بالتحليل المنهجي قدرة الفرد الكاملة وسيطرته التامة ضمن الرؤية الإسلامية التي أشار إليها إيجازً في آخر مقاله في مقالات قادمة حتى نستفيد من علمه، وجزاه الله خيرا؛ هذا إذا لم يتناول ذلك في مكان آخر. بالنسبة لبعض تعليقات الأخوة الذين سبقوني في التعليق على المقال، أرى أن الأخوة الأفاضل لم يحالفهم عدل القول فيما ذهبوا إليه بسبب عدم رؤيتهم لزاوية نظر الكاتب. في تحليل الكاتب لمقتطف الحديث النبوي (ويكفرن العشير)، وكما تفضل هو نفسه بالقول، أنه لم يأخذه من جانب ديني، وإنما حاول التركيز (تسليط الضوء) على حركية "الثقافة" المشكلة لإدراك الفرد (أي، عدم ثباتها). وأنا أضيف أنه لو كانت الثقافة البيئة المكتسبة ثابتة، لما استطاع الإسلام ممثلا بالقرآن والسنة النبوية أن يزحزح اعتقادات (ثقافة) المجتمع العربي الجاهلي الذي نزل فيه. لذلك، بسبب مرونة الثقافة (بغض النظر عن كونها إيجابية أو سلبية) يستطيع الفرد أن يجاهد نفسه لتقويم ثقافته للتناسب مع رؤيته (وهنا يكون مفهوم التقوى في الرؤية الإسلامية التي أشار إليه الكاتب في محله).