هل يتحمل الغزالي مسؤولية انتكاسة الفلسفة في العالم الإسلامي؟


اسم الكاتب : د.نايف بن نهار

المشاهدات : 7292

أول ما لفت انتباهي أنَّ أبا حامد الغزالي سمى كتابه "تهافت الفلاسفة"، ولم يسمِّه "تهافت الفلسفة"، وهذا يوحي أن أبا حامد لا مشكلة لديه مع الفلسفة من حيث هي موضوع معرفي ممايز عما سواه، ولكن لديه مشكلة مع الفلسفة من حيث هي مذاهب موجِّهة لأصل الموضوع.

يكرر كثيرٌ من الغربيين والرشديين العرب أنَّ المسار الفلسفي كان في تصاعد متسارع في العالم الإسلامي حتى جاء أبو حامد فانتكس هذا المسار وتقهقرت الأمور. ومؤخرًا رأيت أستاذًا أمريكيًا يُلقي محاضرة يشرح فيها أن الحضارة الإسلامية كانت في ازدهار مطرد حتى جاء الغزالي وحرَّم الفلسفة، وما أن حرَّم الفلسفة حتى تهاوت الحضارة الإسلامية على أم رأسها، وأنه لو لم يخلق الله الغزالي لكانت الحضارة الإسلامية اليوم تفوق الحضارة الغربية ازدهارًا وتقدمًا !!

والذي أعتقده أن هذا افتراء على أبي حامد الغزالي، فلم يحرم أبو حامد الفلسفة لا من حيث هي ممارسة، ولا من حيث هي صناعة، بل أكثر من ذلك أنَّه إذا كان ثمة عقل إسلامي مارس الفعل الفلسفي من حيث هو تأمّل منهجي في ما وراء المعلوم ممارسة حقيقية فهو أبو حامد، وهو أحقُّ بوصف الفيلسوف من الفارابي وابن باجه وابن طفيل وابن رشد؛ لأنه وحده الذي اعتمد على مقاربة من الذات الحضارية للموضوع الفلسفي، خلافًا لهم إذ اعتمدوا على مقاربات من ذات الآخر للموضوع الفلسفي.

هل حرَّم أبو حامد الفلسفة؟

لأن أبا حامد رجلٌ منهجي موضوعي، كان حكمه على الفلسفة منوطًا بأمرين:

الأمر الأول: أنه لا حكم قبل التصوّر؛ فلأنَّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره، ولأنَّ "الوقوف على فساد المذاهب قبل الإحاطة بمداركها محالٌ"[1] فإنَّ الغزالي سخّر نحو سنتين من حياته لدراسة المذاهب الفلسفية كما هي، ونتج عن هذه المرحلة تأليفه لكتاب "مقاصد الفلاسفة" الذي شرح فيه آراء الفلاسفة كما هي، لا غاية له فيه سوى "تفهيم كلامهم".[2] أي أنه كان دراسة وصفية تحليلية، عارية عن النقد والتقويم.

الأمر الثاني: أنَّه استعمل التفصيل المنهجي دون التعميم الأيدلوجي، فبعد أن أتمَّ الغزالي مرحلة التصوّر، جاء لمرحلة الحكم وتقييم منتجات الفلاسفة، ولم يصدر حكمًا عامًا بتحريم منتجات الفلسفة، ولا حتى نفى فوائدها وجعلها محايدة لا ثمرة منها، بل فصّل المسألة بما تقتضيه معاييره المنهجية، وذكر أن للفلسفة ستة منتجات أساسية: منتج الإلهيات، ومنتج الطبيعيات، ومنتج المنطق، ومنتج الأخلاق، ومنتج الرياضيات، ومنتج السياسة.

ثم جاء تفصيل الحكم على هذه المنتجات كالآتي:

- من بين هذه المنتجات الستة، لم يحرّم أبو حامد سوى منتج واحد فقط لا أكثر، وهو منتج الإلهيات، وقد نصَّ على ذلك بوضوح حين ذكر أن كتابه جاء ردًا على الفلاسفة القدماء مبينًا تهافت عقيدتهم وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات".[3]

وحتى هذا المنتج لم يلغِه بالكامل، بل كان موضوعيًا فيه إذ اعترف بوجود بعض المسائل التي أصاب فيها الفلاسفة، حيث يقول: "وأما الإلهيات فأكثر عقائدهم فيها على خلاف الحق، والصواب نادرٌ فيها".

والغزالي لم يطلق هذه العبارة على عمومها وإطلاقها، بل قيّد مراده وحدده بناءً على منهج استقرائي، فذكر أن مشكلته مع الآراء الفلسفية في موضوع الإلهيات تكمن حصرًا في عشرين مسألة، وكان أكثر دقة بكثير حين ذكر أن ما يترتب عليه كفر من هذه المسائل العشرين هي ثلاث مسائل فقط، وأما البقية فتدخل في دائرة "الابتداع".

- أما منتج المنطق "فهو نظر في آلة الفكر في المعقولات ولا يتفق فيه خلافٌ به مبالاة"،[4] وأنه لو كان هناك خلاف فالخلاف لفظي لا أكثر، فهم "إنما يخالفون أهل الحق بالاصطلاحات دون المعاني والمقاصد".[5] ولأجل ذلك رحَّب أبو حامد الغزالي بالمنطق أيما ترحيب، بل أمسك يده ومشى معه إلى أن أدخله قلعة العلوم الإسلامية لأول مرة في تاريخه، وقصة الغزالي مع المنطق معروفة لا حاجة للتعريج عليها.

- أما منتج الرياضيات فقد قبله أبو حامد الغزالي لأنه "ليس في مقتضيات الهندسة والحساب ما يخالف العقل والحق".[6] ورفض التشنيع عليه أو الزج به في معترك الخلافات الأيدلوجية؛ لأنه منتج محايد بطبعه غير مؤدلج، ولذلك "لا معنى لإنكارها ولا للمخالفة فيها"،[7] وذكر أن أي محاولة من الإسلاميين لرفض الرياضيات بذريعة أنها منتج فلسفي فإنَّها ستكون خطوة عكسية، وسوف تسجّل نقطةً لصالح الفلاسفة والملاحدة على الإسلاميين.

- أما الطبيعيات فيرى أبو حامد "أنه لا يمكن الحكم عليها بغالب ومغلوب" أي ألا يمكن قبولها مطلقًا ولا رفضها مطلقًا، بل لا بد من التعامل التجزيئي معها؛ "لأنَّ الحق فيها مشوبٌ بالباطل".[8]

- أما الأخلاق والسياسة، فيرى أبو حامد أنها صحيحة في ذاتها، لكن ليس المسلم مضطرًا أن يطّلع عليها من نافذة الفلاسفة حصرًا؛ لأنَّ معظم ما ذكروه في هذا الشأن متضمّن في شريعتنا وفي حِكَم الأنبياء السابقين.

إذن لم يحرّم أبو حامد الغزالي سوى منتج واحد من بين ستة منتجات، فكيف بعد ذلك يتجرأ ناظرٌ في القول إنه حرَّم الفلسفة؟ كيف نعزو لأبي حامد تحريم الفلسفة وهو أعلن بوضوح بدءًا من العنوان أن مشكلته مع الفلاسفة لا مع الفلسفة؟

هل كان المطلوب من أبي حامد أن يقف أمام أرسطو وتلاميذه وقوف المريد أمام شيخه؟ هل كان واجبًا على أبي حامد أن يترك الممارسة النقدية التي هي شرط المثاقفة ويتحول إلى محض شارح وملخَّص ومروّج لمنتجات الفلسفة حتى يرضى عنه الغربيون والقوميون العرب؟

إنَّ أبا حامد كان قادرًا على أن يصدر فتوى بتحريم الفلسفة ليتحقق الإعراض عنها، فكلمة أبي حامد لا يكاد أن يوجد خصم لها ولا ند في العالم الإسلامي، لكنه لم يفعل ذلك، بل آثر أن يدرسها أولاً دراسة تحليلية، ثم بعد ذلك آثر أن يكون موضوعيًا فلا يشملها جميعًا بحكم واحد، بل أكثر من ذلك أنه أعاد توظيف بعض منتجاتها في إطاره الحضاري، لقد مارس بذلك فعلاً فلسفيًا حقيقيًا.

إنَّ هذا التعامل المنهجي مع منتجات الفلسفة وتقويمها بناء على المعايير الحضارية الذاتية تدلُّ على أن أبا حامد هو الوحيد الذي أقام المثقافة المنظمة على أصولها مع الحضارة الغربية، وأنه لم يجعل من نفسه محض جسرٍ تعبر من فوقه منتجات الفلسفة اليونانية كما فعل كثيرٌ من الفلاسفة المسلمين.

فهو قد حاكم منتجات الفلسفة لمعاييره المنهجية، ما توافق منها معها رحّب بها وفسح لها في المجالس، وما كانت مضادة للصواب بحسب معاييره رفضها رفضًا صريحًا، ولم يكن رفضًا دوغمائيًا عاطفيًا، بل كان رفضًا منهجيًا إذ بيّن أوجه الإشكال والاختلال في تلك الآراء.

نخلص بعد قراءة فاحصة للغزالي إلى النتائج الآتية:

أولاً: الفلسفة ليست متهافتة، ولكن الفلاسفة متهافتون، ولو كانت الفلسفة متهافتة لرفضها الغزالي من أصلها، ولم يُتعب نفسه في تحديد العناصر المرفوضة.

ثانيًا: أن المرفوض من آراء الفلاسفة هو فرعٌ واحد فقط من فروع الفلسفة، وهو الفرع الإلهي، وليس كل هذا الفرع، بل عشرون مسألة من مسائله.

ثالثًا: أنَّ المعيار في رفض المنتج الفلسفي أو قبوله ليس خاضعًا لمزاجية عشوائية، بل خاضعًا لما يقتضيه الإطار الحضاري الذي ينتمي إليه الغزالي. فما كان من تلك المنتجات يستبطن باطلاً فهو باطل، وإلا فلا.

انتكاسة الفلسفة مسؤولية الفلاسفة وليست مسؤولية أبي حامد

كانت هناك طريقتان في معاملة منتجات الفلسفة في العالم الإسلامي:

الطريقة الأولى: تمثّلت في قبول كل المنتجات الفلسفية إجمالاً، والاقتصار على شرحها وتلخيصها دون أي محاولة حقيقية لتقييمها ونقدها أو إعادة توظيفها بنحو منهجي في الإطار الحضاري الذاتي. وهذه طريقة الفارابي وابن سينا وابن مسكويه وابن باجه وابن طفيل وابن رشد.

الطريقة الثانية: تمثّلت في إعمال المحاكمة المنهجية النابعة من الذات الحضارية تجاه منتجات الحضارة الأخرى، وهذه طريقة أبي حامد الغزالي. فحين وصل أبو حامد إلى سوق الفلسفة، لم يعتقد أن كل البضائع المعروضة محرّمة لا يجوز مسها أو حتى النظر إليها، بل كان موضوعيًا غاية الموضوعية؛ فلأنه يمتلك معيارًا منهجيًا في محاكمة الأفكار، فقد ميّز بين المنتجات الفلسفية التي تستبطن باطلاً وتلك المحايدة التي لا تنفع ولا تضر، وتلك المفيدة التي يجب استثمارها.

إذن لا يتحمّل أبو حامد أي انهيارات في البناء الفلسفي، بل يتحملها حصرًا قيادات المسار الفلسفي في العالم الإسلامي، وتحديدًا الفارابي وابن سينا وابن مسكويه وابن باجه وابن طفيل وابن رشد، ولنكن صريحين ونقول إن المسؤولية الأكبر تقع على الأخير، أعني أبا الوليد ابن رشد.

فهؤلاء الفلاسفة اختزلوا الفلسفة في الفلاسفة، فلم تكن الفلسفة عندهم منهجًا يتجاوز المقاربات اليونانية للموضوع الفلسفي، بل كانت الفلسفة عبارة عن سلّة من الآراء، كلما نُقض رأيٌ فيها نقص من الفلسفة بقدر ما ذهب من الآراء، والفلسفة كمالها ذاتي كأي علم استحق أن يكون علمًا لتمايزه الموضوعي، وكمالها الذاتي يقتضي عدم تعلّقه على رأي هنا أو مذهب هناك.

كان بإمكان هؤلاء الفلاسفة ألا يجعلوا آراء الفلاسفة نهاية إقدام عقولهم؛ وأن يعاملوا الفلسفة بحسبانها منهجًا وفعلاً مستمرًا لا بحسبانها سلّة من الآراء المقدسة، ولو أنهم فعلوا ذلك لما ضاقت صدورهم ذرعًا بانتقادات الغزالي الذي عبّر عن استقلاله في التعاطي مع الموضوع الفلسفي ورفض أن يكون محض امتدادٍ كما رضوا هم بذلك.

ولذلك لا يمكن أبدًا أن نعزو للغزالي سبب انتكاسة الفلسفة، فلو لم يخلق الله الغزالي أصلاً لما كان مصير الفلسفة في العالم الإسلامي أفضل حالٍ مما هو عليه الآن. ليس لأن العقل الإسلامي عاجرٌ عن القيام بوظيفة المثاقفة وممارسة الفعل الفلسفي _بل هو أولى به من غيره_ ولكن لأنَّ الفلسفة لم توضع على المسار الصواب منذ البداية، فمهما سارت ومهما استعجلت مسيرها فلا فائدة من المسير ولا استعجاله؛ لأنها أصلاً على الطريق الخطأ.

أخيرًا أقول من باب التنزّل: حتى لو حرَّم الغزالي الفلسفة في عصره، فهذا لن يكون بحال من الأحوال سببًا في انتكاسة المسلمين؛ لأن تلك الفلسفة تحديدًا لم تكن أصلاً سبب نهوض الغرب، بل شنَّ الغربُ حربًا شعواء عليها في أول لحظات استيقاظه من سباته، ففرنسيس بيكون _الذي يُعدُّ، بالاشتراك مع ديكارت، مؤسس الفلسفة الحديثة _ أعلن صراحةً أنه يجب إحداث قطيعة تامة مع التراث الفلسفي، وأنَّ أول خطوة يجب على الغرب اتخاذها هي "الاستغناء عمَّا قام به الأقدمون وعدم الاقتباس من أي سلطات سابقة".[9]

إذن هذا فرنسيس بيكون مؤسس الفلسفة الحديثة يجعل ترك فلسفة الأولين أوَّلَ شروط النهوض الغربي، ولذلك ألّف كتابه "الأورغانون الجديد" إشارةً إلى انتهاء عهد أورغانون أرسطو الذي كان مسيطرًا على الفكر الأوربي لا سيما بعد توما الأكويني. ومع هذه الدعوة البيكونية لم نجد أن المسار الفلسفي في الغرب انتكس، بل وجدناه يزدهر ويتطور ويدخل مرحلة الفلسفة الحديثة والحداثة وما بعد الحداثة.

والخلاصة في ذلك أنه لو كان تحريم الفلسفة اليونانية سببًا في انتكاسة المسلمين، لكان الغرب الآن منتكسًا؛ لأنه أعلن تحريمها قبل نحو خمسئة عام، لكن المفارقة العجيبة فعلاً، أن لحظة نهوض الغرب بدأت مع لحظة إعلان تحريم التراث الفلسفي.

 


[1]  مقاصد الفلاسفة، ص9

[2]  المرجع السابق، المكان نفسه.

[3]  تهافت الفلاسفة، ص43.

[4]  تهافت الفلاسفة، ص52.

[5]  مقاصد الفلاسفة، ص9.

[6]  المرجع السابق، ص9.

[7]  تهافت الفلاسفة، ص52.

[8]  مقاصد الفلاسفة، ص10.

[9]  بيكون، الأورغانون الجديد، ص379.

التعليقات

يوجد 3 من التعليقات

د. نبيل درويش

2016-12-30 19:08:46

أحسنت د. نايف في عرضك وبيانك وتحليلك نعم .. كان الإمام الغزالي مراعيا للدقة حتى في اختيار اسم رسالته ليحدد المنهجية التي يقصد من ورائها - كما علمنا مشايخنا - أن هناك فارقا بين الفكرة وبين من يدين بالفكرة ، بين الدين والتدين، بين الإسلام والمسلمين .. بين الفلسفة والفلاسفة .. الخلط دائما هو الذي يصنع الإشكالات بوركت جهودك .. وأحييك على همتك في بناء (الوعي)

د: محمد عبد الحليم بيشي. الجزائر

2016-12-30 20:34:07

استقراء وسبر وتقسيم جيد قام به الباحث الدكتور نهار، والملحوظة الأخيرة في كفران الغرب بالموروث الفلسفي اليوناني صحيح، فقد قامت الفلسفة الحديثة مع ديكارت بإلغاء الوسيط (الحد الاوسط) ، والوسيط كان المسيحية المجافية للعقل والمنابذة للإنسان. أما الفلاسفة الإسلاميون فقد أرادوا جعل الحكمة الاخرى خطا موازيا أو بديلا للشريعة على الرغم من محاولة القول الفصل في الاتصال. لكن الانفصال كان هو المهيمن ولذلك لم يفلحوا إلا في استجلاب دعوات التكفير عليهم.

الشريف طوطاو

2017-01-15 10:47:27

مقال جيد، يتضمن رؤية منهجية نقدية ورؤية معرفية أصيلة، وهي ذات الرؤية التي عبرنا عنها في كتابنا "المنهج النقدي في فلسفة أبي حامد الغزالي _ مقاربة ابستمولوجية" الصادر في طبعته الأولى عن مكتبة الثقافة الدينية، بالقاهرة سنة 2013.