هندسة الواقع من التكديس إلى البناء


اسم الكاتب : أ.ريناس بنافي

المشاهدات : 3167

مقدمة 

البناء الفكري: هو إدراك محيط ما من خلال تحصيل وتراكم المعرفة، وبرمجتها وتنظيمها بالاستنتاج (التفقه) إلى سلوك وخبرة من خلال التفاعل مع المحيط. وتكون هذه العملية بإنشاء قاعدة، مكونة من مجموعة مبادئ وقوانين وأفكار، يرتكز عليها الإنسان في الاستنتاج والتفاعل مع محيطه؛ كالنحلة فهي تجمع المواد من الأزهار وتقوم بهضمها وتحويلها من خلال قدراتها الخاصة إلى شراب نافع، وهذا عمل الفكر السليم!

والبناء يصاحبه التخطيط والتصميم والتنظيم، ويقابله التكديس أو التجميع العشوائي غير المنظم ومن دون هدف. فعملية البناء تقوم على استقطاب العلوم والمعارف والتنقيب عنها وفق احتياجات ومعايير وأهداف الشخص. وتكون القاعدة التي يرتكز عليها الإنسان في تصرفاته وأقواله وتحليله وفهمه للواقع من حوله. أي أن عملية البناء تستمر وفق منهجية وأهداف واضحة في ذهن الشخص، ومع الوقت تصبح هذه المكتسبات وهذا البناء؛ قاعدة تحكم سلوك وفهم الأمور.

أما التجميع / التكديس فالمقصود به: جمع الأفكار والعلوم والمعارف الموجودة والمتداولة في الواقع بمختلف الوسائل دون تخطيط أو هدف .

والبناءُ الفكريُّ يتأثر بعاملين أساسيين؛ أولهما: هو" العقل والمنطق"، والآخر هو "الطباع الخاصة" بالإنسان، فإذا اتفقت جميعُ طباع الإنسان مع العقل والمنطق وصلْنا إلى البناء الفكري السليم، وإذا اختلفت بعضُ الطباع مع ما يمليه العقلُ الرشيد، حدث صراعٌ بين الطباع والعقل، حتى تكون الغلبة لأحدهما، وهذه الغلبةُ هي الضابط الذي يحدد عملَ الإنسان ويفسر سلوكياته وطريقة استجابته في المواقف الاجتماعية المختلفة، والظن الشائع في مدارس علم النفس الغربية، أن الغلبة تكون في أكثر الأحوال للطباع، لقوة سلطانها، وصعوبة مدافعتها، ولا ينتصر العقلُ إلا عند الأقوياء القادرين على ترويض أنفسهم ودفع هواها.

وهناك إشكالية تَعرض لها "مالك بن نبي" سماها: "فاعلية الأفكار" في كتابه: "ميلاد مجتمع"، وبيَّن أنه كلما كانت شبكة العلاقات حول فكرة ما أوثق، كلما كانت الفكرة أكثر فاعلية وتأثيرًا. والحق أن "مالك بن نبي" لا يقصر مشاكل الأمة على ذلك؛ فقد قرر في كتابه: "وجهة العالم الإسلامي" أن واقعنا الآن هو: "إما فكرة لا تطبق، وإما عمل لا يتصل بجهد فكري". وأنه لا يكفي مجرد صواب الفكرة، ولا عمقها ولا إبداعها في تغيير الواقع، بل لابد لها من هيكل فعال قادر على تطبيقها وتحويلها إلى حقيقة. ولا يكفي كذلك مجرد حشد المؤيدين والمتعاطفين والمتحمسين للفكرة دون إيجاد شبكة من العلاقات فيما بينهم تتضح فيها المهام، وتقسم فيها الأدوار.

ويذكر "مالك بن نبي" في كتابه "شروط النهضة" تحت عنوان: "من التكديس إلى البناء"، حيث ضرب مثلا : "برجلين أراد كلٌ منهما أن ينشئ عمارة، فالأول: اشتري الحديد والآلات والأحجار، وكل ما يلزم لإنشاء العمارة وتركها في موقع البناء، أما الثاني: فقد أخذ يشتري جزءًا من مواد البناء ويبني، فما هي إلا بضعة شهور حتى أقام عمارته، بينما الأول لم يفعل شيئًا سوى أنه اشترى مواد البناء وتركها مكدسةً بلا تفعيل ولا عمل، فلن يبني عمارته". 

فالمفكر الذي يكتفي بمجرد حشد المتعاطفين مع فكرته دون أن ينشئ شبكة من العلاقات بينهم، ثم يوظف كل واحد منهم طبقًا لمواهبه وإمكاناته في المكان المناسب لخدمة هذه الفكرة؛ لن يستطيع أن يتحول بفكرته من مجرد خيال وأحلام إلى واقع ملموس. ويقول "مالك بن نبي" في كتاب شروط النهضة: "فكم من طاقات وقوى لم تستخدم؛ لأننا لا نعرف كيف نوظفها! وكم من الطاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها، حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن نفس المصدر، متجهة إلى نفس الهدف... فهناك ملايين السواعد العاملة، والعقول المفكرة ، صالحة لأن تستخدم في كل وقت، والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل، المكون من ملايين السواعد والعقول، في أحسن ظروفه الزمنية، والإنتاجية المناسبة لكل عضو من أعضائه، وهذا الجهاز حين يتحرك، يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود".

ويقول مالك بن نبي، عندما بدأ العالم الإسلامي يشعر بتخلفه إثر احتكاكه بالحضارة الغربية التي انطلق منها الاستعمار، أخذ يبحث عن علاج لمرضه دون أن يحدد طبيعة مرضه، وهكذا فقد توجه العالم الإسلامي إلى صيدلية الحضارة الغربية يطلب عندها الدواء وهو بهذا التصرف إما أن يحصل على الدواء الذي يشفيه أو يحصل على الدواء الذي يميته؛ لأنه لا يناسبه . وعندما يكون الفرد في حالة التخلف، يغلب عليه تكديس الأشياء، لا صناعتها، فتكديس أعداد من الحجارة أو الاسمنت لا يعني أن البناء أصبح جاهزاً، فالأمر بحاجة إلى مهندسين وبنائين وتخطيط. وهذه مشكلة العالم الإسلامي .ونجد مشكلة العالم الإسلامي اليوم كالطفل يكدس في أشيائه ظنا منه أنه قد حاز كل العالم، وهو لا يملك منه إلا أشياء، بينما الأفكار بعيدة عنه كل البعد فلن تجديه الأشياء في تكوين الحضارة . 

والفرق بين نهضتنا ونهضة اليابان، أن اليابان وقفت من الحضارة الغربية موقف التلميذ، بينما وقفنا منها موقف الزبون، فهم كانوا ينشئون حضارة وكنا نشتري بضاعتها. 

من الجدير بالذكر أن البناء والتجميع لا يختلفان فقط بالمعطيات ولكن أيضا يتباينان بالنتائج. فالبناء ينتج أفكار واعية ناضجة موضوعية بامتياز. بينما التجميع من المرجح أن لا يخرج بنتيجة أو ستكون نتيجته عبارة عن أفكار غير منهجية وضئيلة غير ناضجة. وليس من المستبعد أن تكون هذه الأفكار خاطئة.

وتظهر أهمية البناء بأننا نحصل على نتائج وأفكار قابلة للحياة ويمكننا الاستفادة منها في المضي قدما في طريق الإبداع والابتكار ونهضة الأمة، بينما تكمن أهمية التجميع بالتعرف على جميع الأفكار والحقائق التي تخص الموضوع، الصالحة والطالحة؛ حتى يستطيع المفكر نقدها وتحليلها بموضوعية ودون أن يغفل عن أي جانب من الجوانب.

يذكر الدكتور عبدالكريم بكار أهدافا للمعرفة، ففي بلد مثل أمريكا لا يحفظ الطلاب إلا القليل من المعلومات. والفهم والمهارة هما الهدف الأساسي للتعلم. أما في بلادنا يهتم الناس بالحفظ عن ظهر قلب أكثر بكثير من اهتمامهم بالفهم والتحليل والاستنباط والتوظيف. 

فبات علينا أن نستجلي أهدافاً جديدة للمعرفة، وأن نتبع أساليب جديدة في تخزينها واستخدامها. ويقول الدكتور عبدالكريم بكار أن جميع ما يتعلمه أبناؤنا في المدارس، وجميع ما يطلعون ونطلع عليه نحن الكبار، يجب أن يستهدف الأمور الخمسة التالية:[1]   

تطهير العقل من العادات الذهنية والنفسية التي تحرمه من الرؤية الصحيحة، مثل التعصب والمبالغة والانغلاق والميل إلى التبسيط والخضوع للمقولات الشائعة، والتعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة، ورؤية نصف الحقيقة.

2- تكوين العقل المثقف، وهو ذلك العقل الذي اجتاز عدداً كبيراً من حالات التدريب على التفكير المستقيم، والذي يستطيع استلال نموذجه الخاص من خلال استعراض عدد كبير من وجهات النظر المختلفة في القضية الواحدة.

تحسين مستوى اتخاذ القرار من خلال معرفة جيدة بالإمكانات والقدرات الذاتية والفرص المتاحة والتحديات والمعوقات الموجودة واستشراف آفاق المستقبل.

التلاؤم مع التغير والتكيف مع المعطيات الحديثة، وذلك من خلال امتلاك طاقة روحية وعقلية، تمكن المتعلم من استيعاب الوافدات الجديدة، والاستجابة لها على نحو صحيح. وهذا لن يتم إلا إذا تدرب المتعلم على النظر في اتجاهات مختلفة، وعلى دمج الجديد في القديم عبر آفاق رحبة من الملاحظة والإدراك؛ والقيام بعقد موازنات ومقارنات بين الأصيل والطارئ، ليقف على خير ما فيهما.

تعديل السلوك، وتشذيب الزوائد الأخلاقية، وتأهيل المتعلم لأن يحيا (الحياة الطيبة) من خلال انسجام سلوكه مع معتقده، وإنشاء أسرة صالحة، وإقامة علاقات جيدة مع الناس، والنجاح في العمل، وتحقيق التوازن والانسجام بين المطالب الروحية والمادية. حتى تؤدي معارفنا هذه الوظائف الكبيرة، وحتى تبلّغنا هذه الأهداف العظيمة، فإننا بحاجة إلى أن نعيد هيكلتها في أذهاننا، وأن نحسن طرق تخزينها في عقولنا. نحن في البداية بحاجة إلى التخلي عن طريقة السرد في تخزين المعرفة، تلك الطريقة القائمة على حشد عدد هائل من المعلومات المتتابعة، والتي لم تخضع لأي تقسيم أو عنونة أو تبويب. تلك المعلومات تشعر وأنت تسمعها بأنها خليط من الآراء والحقائق والعادات والأوهام والمعارف المتشرذمة، وتشم منها رائحة التحيز والسطحية والاختيارات الشخصية التي لم تخضع لأي اختبار.

وبداية التخلي عنها تتمثل في أن ننظر إليها بعين التوجس والحذر. وتتجسد الخطوة الثانية في أن نعامل المعلومات التي نحصل عليها على أنها مواد أولية وبيانات بكر، وكأنها أرقام غير مميّزة، وذلك حتى نتمكن من إعمال طاقاتنا الذهنية فيها بحرية وفاعلية. والخطوة الثالثة تتجلى في أن ندخل تلك البيانات والمعلومات إلى أذهاننا موزعة على مساقات وبنى ونماذج إرشادية. وهذا يحدث إذا عمدنا على نحو مستمر إلى البحث عما يمكن استخلاصه من فحص المعلومات والبيانات المتوفرة من مفهومات ومؤشرات وعلاقات ومقارنات، وكليات وموازنات ومعدلات بواسطة ما نملكه من ملكات التحليل والتركيب والاستنتاج. وفي المقابل فإن علينا أن نصرف الانتباه عن كل المعلومات التي لا نشعر أنها تفيدنا في دعم رؤيتنا الخاصة، وتشكيل حصيلتنا المعرفية المنتخبة، وهي اليوم كثيرة جداً. وإنما أقول هذا لأن هذا الفيضان من المعلومات المتشظية والمتقاطعة يربك عمل العقل، وربما ضلله، وانحرف به عن مساره الصحيح. وقد بات من الواجب علينا في عصر تفجر المعرفة أن نختار بدقة ما نرغب في الاطلاع عليه، وأن نتساءل باستمرار كيف نفيد منه، ونوظفه في تحسين المحاكمة العقلية لدينا والارتقاء بثقافتنا.

وفي ظاهرة التكديس يقول "مالك بن نبي": "إنّ علينا أن نكوّن حضارة أي أن نبني لا أن نكدس فالبناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس ولنا في الأمم المعاصرة أسوة حسنة فالحضارة هي التي تكوّن منتجاتها وليست المنتجات هي التي تكوّن حضارة إذا من البديهي أن الأسباب هي التي تكوّن النتائج وليس العكس، فالغلط منطقي ثم هو تاريخي لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".

وترتكز أفكار مالك بن نبي على قاعدة رئيسة، وهي محور أفكاره وتصوراته ألا وهي أهمية الأفكار في بناء الحضارة فهو يقول: "مشكلتنا هي مشكلة أفكار: فبعض الأفكار المميتة أسلمت العالم الإسلامي إلى مرضه وتخلفه، ولقد كان فشل الوسائل التي استخدمت في الوصول إلى النهضة أنها لم تتخذ الفكرة هادية فقد تخبطت في فوضى من التقليد، وحيث يكون التقليد تنسحب الفكرة. والأفكار المُمِيتة جاءتنا بالتقليد الأعمى، فهي مستوردة. 

ويمكن أن نفرق بين التجميع والبناء بعدة نقاط: [2]

1- الاستمرارية: عملية البناء مستمرة وتأثيرها متواصل، أما التجميع فهو عملية قد تتوقف وخاضعة لظروف وجهد الشخص.

2- الأهمية: كلا المفهومين مهم، إلا أن البناء أهم ومقدم على التجميع العشوائي.

3- السهولة: البناء أصعب من التجميع، فمثلا عندما يمارس عامل البناء التجميع لا يمارس جهدا كبيرا، يقوم بجمع مواد البناء من حجارة وأسمنت وغيرها بالتعاون مع الموردين، أما البناء فيتطلب منه جهدا كبيرا وتركيز ومسؤولية.

4- البناء الفكري هو: تحصيل و تراكم المعرفة، و التي يتبع فيها الإنسان منهجا علميا بنائا عن قصد و بهدف إنماء قدرات عقله و معارفه . أما التجميع الفكري أو ما يمكن تسميته بالعقل الجمعي: فهو النموذج المعرفي الذي كونته تراكم المعرفة في مجتمع ما و أصبح القاعدة المعرفية التي ينطلق منها الإنسان بغير منهجية علمية مقصودة و لا غاية يحددها. 

5- العقل الجمعي بشكل عام يعاني من السطحية و انخفاض الفهم للذات و للواقع، يعاني من الجمود و النفور من التجديد و شديد التمسك بما يعرف، و ذلك أن الاكتفاء بالموروث يعمل على إكسال العقل، فيبتعد عن التحليل الدقيق و التفلسف العميق عكس البناء الذي يتميز بفهم كبير جدا للذات و للواقع و منفتح على أغلب المعرفة حيث أن من أدواته تعدد و تنوع مصادر تحصيل المعرفة و يحتوي بذات الوقت على الأدوات اللازمة لإصلاح منهجيات التفكير و نقدها مما يجعله أقل تمسكا بما يعرف و في حالة ارتقاء معرفي متواصل و يجعل الإنسان في مراجعة دائمة لمنهجيته و على وعي و معايشة أكبر للواقع.

6- في البناء، العقل يكون تحصيلي يعمل على التفكيك و التركيب ليحاول الوصول دائما إلى فهم أعمق و أشمل و أتقن، و أما في التجميع فالعقل تحصيلي تكديسي.

7- العقل الجمعي تحكمه بشكل عام العاطفة لا العقل والمنطق، وأما البناء فتحكمه منهجية علمية مركبة.

8- العقل الجمعي يحوي معرفة بلا هدف، و البناء يحوي معرفة مقرونة بغاية/هدف.

ولكي نستثمر التجميع: لابد من استشارة المتخصصين، و تحديد الهدف بالضبط، و وضع خطة منهجية للتجميع ترتكز على الهدف والاستشارة.

أدوات البناء الفكري:

1- الأدوات التأسيسية: التربية، الفطرة، العبادة

2- الأدوات المعرفية: القراءة العلمية، الاستماع والمشاهدة ، المناقشة، التجارب والاختبار

3- الأدوات التطويرية والإبداعية: الكتابة والتأليف، الحوار ،المحاضرات، البحث العلمي والدراسات العليا، المشاركة في تأسيس وتطوير المشاريع الاجتماعية وبناء المؤسسات.

من الواضح أن التجديد الحضاري تصنعه جملة من الشروط ويتجلى في جملة من الميادين تمثل مظاهر الحضارة ومعالمها، ويمثل هو ذاته عامل البناء الحضاري لكل مجتمع فهو يمثل الديناميكا الحضارية لكونه استراتيجية شعب يريد التحضر وينفر من التخلف ويرغب في التطور الروحي والمادي، ولكونه نظاما يُنتهج وخطة تُتبع لتطوير منتجات الحضارة الفكرية والمادية وللمحافظة على منتجات الحضارة القائمة واستمرارها من خلال الإبداع في مختلف المجالات فيتحقق التقدم والازدهار، ولكونه أسلوبا ينتهجه المجتمع في كل إصلاح ينجزه لرد المفاسد والأضرار ومن أجل إعادة البناء. 

ويحتاج أي مجتمع إلى التجديد الحضاري حينما يحرص على بعث وإحياء قيم وأعمال وعادات طيبة نافعة يكون قد تخلف عنها في وقت سابق، لكن في هذه الحالات التي يكون فيها التجديد الحضاري جوهر كل العمليات الحضارية وأساس "الديناميكا الحضارية" عند ميلاد الحضارة أو عند تطورها أو عند إصلاح ما تم إفساده، وحتى في عملية البعث والإحياء وإعادة البناء تقف أمامه جملة من الأسباب تمنع حركته وتقضي على بوادره وعلى الشروط التي تصنعه فيقوى التخلف وتتثبت أسباب الجمود والتحجر[3]

إنّ موانع التجديد الحضاري تدخل في النسق الفكري لفلسفة الحضارة عند "مالك بن نبي"، استقاها من بحوث في التاريخ وتاريخ المجتمع الإسلامي وواقع الشعوب المتخلفة والشعوب المتقدمة، لأنّ الصراع قائم بين التحضر والتخلف وكلما قامت أسباب التحضر زالت معها موانع التجديد الحضاري والعلاقة عكسية بين شروط الحضارة وأسباب ضعفها وانهيارها وأفولها، بين موانع النهضة وشروط النهضة. 

لقد حدد "مالك بن نبي" في أكثر من بحث وفي أكثر من كتاب وفي أكثر من محاضرة شروط نهضة أي شعب وهي شروط الحضارة معتبرا المشكلة الأم في حياة الإنسان هي مشكلة حضارته، والحضارة مرتبطة بعوامل بناء كما ترتبط بعوامل هدم للبناء، وأسباب تقتضي البناء في مرحلة ما قبل الحضارة هذه الأسباب التي تقتضي شروط البناء أو تهدمه ترتبط بحياة الفرد والمجتمع في جميع مجالاتها الروحية والفكرية والاجتماعية. 

إنّ غياب الأفكار وسيطرة الأوثان وانتشارها يمنع كل محولة تجديد في المجال الثقافي الروحي والأخلاقي وهو الأمر في المجتمعات البدائية. 

وترتبط أية حضارة في ميلادها بفكرة واضحة مضبوطة تحمل المبدأ وتحدد الغايات قريبة كانت أو بعيدة التي يعيش لأجلها الفرد والمجتمع، فالحضارة هي "نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ". لكن هذه الفكرة لا تقوم بوظيفتها الاجتماعية والحضارية إلا بتوفير جملة من الشروط النفسية والأخلاقية 

أما الحالة الثانية فتخص مرحلة الحضارة، بحيث يكتسب المجتمع عادات فكرية تترسخ في نظامه الاجتماعي وتبق حالّة في ذهنيات أفراده ومنجزات حضارته، وهذه العادات الفكرية تقف في وجه كل جديد وتمنع التغيير ويصبح الركود الحضاري معول هدم للتجديد بقتل روح الإبداع الفردية والاجتماعية التي هي جوهر التجديد الحضاري وتطوير الحضارة وتحصينها بالتقدم الفكري والمحافظة على استمرارها وبقائها، وينتج عن هذا القتل سقوط الحضارة وأفولها مما يوسع في مجال الجمود الفكري فيزداد تخلف المجتمع وانحطاطه ويفقد معنى وجوده.

إنّ طريق الخروج من حالة الجمود الفكري للوصول إلى حالة يتطور فيها عالم الأفكار هو التغيير في حالة البداوة أو الحضارة أو ما بعد الحضارة، هذا التغيير يبدأ في نفس الفرد ثم ينميه نحو الخارج أي محيط الفرد وهو الطبيعة والمجتمع، والنهضة الأوروبية الحديثة نتاج انقلاب فكري وحاصل تفاعل جملة من التغيّرات التي دخلت عالم الأفكار في المجال المعرفي والعلمي والسياسي والاقتصادي وغيرها من المجالات الأخرى، وإنّ التخلف والتراجع والانحطاط ظواهر تُنزل أي مجتمع من فوق وتمنع فيه أي مبادرة أو محاولة بناء أو تجديد أو إصلاح فهي ظواهر من إنتاج الجمود الفكري. 

ولا يندمج أي مجتمع في التاريخ ما لم يتخطى عقبة الجمود الفكري، ويشهد نهوضا فكريا على مستوى الأفراد، و"يكون للأفكار دور وظيفي، لأن الحضارة هي القدرة على القيام بوظيفة أو مهمة معينة". إنّ ظاهرة الجمود الفكري التي تمنع النهضة تعود إلى غياب الإرادة الحضارية، وانعدام الإرادة الحضارية يعني انعدام القدرة على التغيير لغياب النزوع أو القصد المشحون بالعزم والإصرار ولغياب الشعور بأهمية التحوّل وضرورته لدى الفرد والمجتمع .

فشراء منتجات حضارة الغير وتكديسها يخلق مشاكل خطيرة بحيث تنمو اللافعالية وتموت الفعّالية فيعيش الإنسان في تبعة حضارية لغيره ويكون عالة وليس هناك أخطر من التبعية الحضارية على حياة المجتمع وقيّمه وهويته، فالتكديس مظهر من مظاهر التخلف والتبعية يعيق التنمية ويمنع التجديد الحضاري، فشراء منتجات حضارة ما وتكديسها لا يبني الحضارة إذ أن أكوام من الأشياء المستوردة لا تساوي حضارة، فالحضارة حاصل تفاعل جملة من الشروط في التاريخ نفسية واجتماعية، وتخضع عملية البناء الحضاري لجملة من القوانين مثل قانون المبدأ الروحي وقانون التركيب بين عناصر العدة الدائمة وقوانين التوجيه وغيرها، "فإن العودة إلى الريادة في المجال الحضاري تكون بالبناء المخطط المدروس المحكوم بفكر متحرر من إرادة الأجنبي وتأثيراته وليس بدفع الأمـوال لشراء مواد الاستهلاك المادي". 

إنّ سبب التخلف والانحطاط لدى الشعوب المتخلفة عامة والشعوب العربية والإسلامية خاصة ليس خارجيا بل داخليا في نفس كل فرد من أفراد هذه الشعوب وفي الإطار الاجتماعي لكل مجتمع من هذه المجتمعات المتخلفة، "لا يأتي عامل الكف من خارج الذات بل هو سبب داخلي ناتج عن نفسية الناس وأذواقهم وأفكارهم وعاداتهم وفي كلمة واحدة ناتج عن قابليتهم للاستعمار". 

إنّ الاستعمار يريد ان تكون الشعوب عاطلة عن العمل ليسخرها في الأعمال الشاقة بثمن زهيد ويريد منها جاهلة ليستغلها ويريد منها متدنية في الأخلاق لكي ينشر الرذائل لتشتيت المجتمع وتفريق أفرادها حتى يحل بهم الضياع في الناحية الأخلاقية مثلما هو حال الناحية الاجتماعية، كما يريد منه كائنا تغمره الأوساخ يظهر في سلوكه الذوق السيئ ليتعرض للذل والاحتقار. 

يحرص الاستعمار كل الحرص على التمكين لاستقراره في البلاد المستعمرة مستهدفا الفرد والمجتمع يؤثر فيهما لتقوية عوامل "القابلية للاستعمار" فيزيد ذلك في السيطرة على المستعمر، فهو "يؤثر في حياة الفرد في جميع أطوارها يؤثر فيه وهو طفل، إذ لا يمده المجتمع بما يقوي جسده وينمي فكره، أو يهيئ له مدرسة أو توجيها، هذا إذ كان له أب يحنوا عليه أما إذا فقد من نشأته الأب فسيكون الأمر أدهى وأمر ولسوف يؤول صاغرا إلى ماسح الأحذية أو سائل يتخلى عن كل عزة وكرامة، بإراقة ماء وجهه". 

ويؤثر الاستعمار في المجتمع تأثيرا سلبيا بحيث يهدمه ويزيف قيّمه ويمنع فيه قيام أي شرط من شروط النهضة والإصلاح وأي عامل من عوامل البعث والإحياء وإعادة البناء مستعملا وسائل وأساليب عديدة مباشرة وغير مباشرة محلية ودخيلة، "كذلك نجده يحول بين الشعب وإصلاحه نفسه، فيضع نظاما للإفساد والإذلال والتخريب، يمحو به كل كرامة أو شرف أو حياء هكذا يجد الشعب المستعمر نفسه محاصرا داخل دائرة مصطنعة، يساعد كل تفصيل فيها على تزييف وجود الأفراد". 

فلا سبيل إلى الحضارة أمام مجتمع تغمر أفراده "القابلية الاستعمار" أو خاضعا للدوائر الاستعمارية، فالحضارة من نصيب مجتمع يدرك أفراده معنى وجودهم ويتحررون من الوثن الخرافي والوثن السياسي والوثن لاستعماري وتكون حركة بناء تدخل التاريخ لتسقر فيه. 

ونستخلص مما سبق؛ أن التجديد الحضاري له عوامل وشروط تحدثه كما له موانع تقف في وجهه، هذه الموانع ترتبط بالفرد وبمحيطه، وترتبط بالفرد ككائن طبيعي ونفساني وعاقل واجتماعي فهي موانع ذات طابع حيوي ونفساني واجتماعي وهي كذلك ذات طابع فكري ومنهجي، بعضها ذاتي في الفرد وبعضها موضوعي، بعضها داخلي في المجتمع وبعضها خارجي، وسبيل الفرد والمجتمع إلى الحضارة هو القفز فوق موانع النهضة والتجديد للوصول إلى نقطة منها تنطلق وتقلع عملية البناء التاريخي بعدما تتوافر كافة شروط هذا الإقلاع.

 

[1] عبدالكريم بكار من التكديس إلى التوظيف مجلة المعرفة العدد 75 

[2] وليد الصيفي، ثنائية البناء والتجميع. مشروع النهضة

[3] الدكتور جيلالي بوبكر - موانع التجديد الحضاري في فكر مالك بن نبي - التجديد العربي.

 

التعليقات

يوجد 0 من التعليقات

لا يوجد تعليقات