واجبنا الفكري تجاه المجتمع


اسم الكاتب : أ.ريناس بنافي

المشاهدات : 4182

في واقعنا المعاصر تفجعنا الصورة التي عليها واقع الأمة من تخلف وتشرذم وضعف، مقابل ما نعول عليه من تقدم وازدهار ونهضة وبناء للحضارة.

وإن حاجتنا للفكر توجب علينا اكتشاف ذواتنا او كما يسميها "المفكر حسن بن حسن" الوعي الذاتي، والتي يقصد بها معرفة الانسان: ما هو؟، وأين هو؟، وما ينقصه؟، وإلى اين يريد أن يصل؟، وما هي الأدوات لذلك؟

فالحاجة للفكر هي حاجة للوعي الذاتي والتي من خلالها يكتشف الإنسان الفجوة بين الواقع والممكن عن طريق العلم والمعرفة والقراءة، ثم يتبعها العمل. ومن خلال زيادة نصيبه من الممكنات التي أودعها الله في شكل استعدادات أساسية ينتقل من حال إلى  آخر أفضل منه.

فالإنسان قادر على كل شيء، ولو نظرنا إلى الإنسان البدائي وكيف أنه يختلف عن إنسان اليوم، وكيف أنه اكتشف كل هذه الممكنات؛ نعلم أن ما لم يكتشف هو أكبر بكثير مما نراه اليوم، وإن كنا نريد أن نخرج ما تبقى، فالطريق إلى ذلك هو الوعي بالحاجة لذلك الشيء وزيادة المعرفة والعلم والقراءة.

والإنسان كائن له ممكنات، وولد بممكنات واستعدادات مجردة، ونصيبه التاريخي من هذه الممكنات تزيد وتنقص بحسب نجاحه في القراءة.

وهناك علاقة بين الممكن والحاجة للفكر، وبين تحويل الممكن والفعل أو الحاجة إلى الفكر، وبين رفع سقف الوعي المعنوي والروحي والصورة التي نحملها عن أنفسنا وعن قدراتنا.

وهناك ممكنات كبيرة ومهمة مهدورة في حياة الأمة، من هذه الممكنات: سؤال التغير، متى ننجح؟، ومتى نحقق ما نتطلع إليه؟، وما هو الطريق إلى ذالك ؟.

يقول مونتسكيو: كل نظام يحمل في طياته أسباب الفساد أو الصلاح، والبحث في هذا الأمر هو البحث عن الإصلاح وإسعاد الناس.


إن نداء الفكر في بدايته يبدأ برفض الواقع ومقاومته وكسر حاجز اليأس والخوف والظروف القاهرة وتجاوز الثقافة السطحية، من خلال نظرية نقدية والخروج بمشروع أو مشاريع حضارية معلومة الاتجاه وممكنة الوصول إليها، كدعوة رفع مستوى الثقافة والوصول بالفكر إلى سقف عالٍ والاهتمام بالجانب الروحي والمعنوي والإداري، والاختلاط بالجمع الواعي المدرك لذاته وقدراته ثم الاضطلاع بأدوار تاريخية كبرى. والمتمثل لوجوده تمثلا وضيعا لايمكن أن ينتج شيئا. وتحقيق هذا الشرط في النفس مهم جدا في مجال التفكير والاجتهاد والإبداع . والمطالب والممكنات في حياتنا كثيرة جدا وهي المحرك الأساسي للفرد وللشعوب وهي الديناميكية التي تعطي الروح لصاحبها، ومن خلال أعمال العقل والفكر يمكن أن نحقق هذه الممكنات.

فالواجب الفكري في هذه الحالة يكون عبر تحرير الممكنات المهدرة والتي لا تتحرر إلاعن طريق العلم والفكر ونقد التاريخ والاطلاع على تجارب الآخرين من نجاح أو فشل واستخلاص الدروس والعبر منها.


إن أزمتنا في هذا العصر، تكمن في المسافة البعيدة بين الأمة والوصول إلى الممكنات والنهوض الحضاري، عبر الوعي الذاتي والإصلاح، ولهذا نجد أنفسنا أقرب إلى التخلف منه إلى التقدم.

وإن الوظيفة الحقيقية اليوم لأي مفكر هي التجديد والتجديد في كل شيء، وإحداث ثورة فكرية داخل المجتمع عبر إعادة المفاهيم والتصورات المسبقة وخلق حالة جديدة تخدم نهوض الأمة والخروج من هذا التيه والضياع، ومن ثم إيجاد مشاريع إصلاحية في كل المجالات ورسم الخطة والاستراتيجية لها.[1]

إنَّ من مهام المفكر العظيمة، مساهمته في إيجاد حراك اجتماعي في المجتمع، ونقده للأفكار القديمة، وطرحه للأفكار الجديد، فالمجتمع الذي لا يحدث فيه هذا الحراك؛ يتأسّن ويصير مثل الماء الراكد، وهذا يؤدي في النهاية إلى تخلّفه وتراجعه، ومن واجب المفكّر أنْ يطرح أفكارًا جديدة من أجل ذلك.

والواجب على المفكر، أن يُوصل رسالته بمقدار ما يستطيع بأي طريقة يراها مناسبة، أكان ذلك بالتلميح أو التصريح.

ويجب على المفكر: ألا يقدّم أيّ طرح متقدم على الأدلة التي لديه، بحيث يصبح لديه دعاوى لا يسندها الدليل والقناعة. وأنْ يطرحَ الأمر بطريقة حكيمة لا تُثير الفتن.

وأنْ يوقن أنَّ طرحه هو طرحٌ اجتهادي قد يصيب وقد يخطئ، وبالتالي عليه أن يكون على جاهزيَّة عالية واستعداد لأن يتراجع عن بعض ما يقول إذا تبيَّنَ له عدم صواب ما ذهب إليه، ويسمع النصح من غيره، وأنْ يعلمَ أنَّه لا يرى كل الواقع، ولكن هو يرى جزء منه، وبالتالي قد تخفى عنه أشياء مهمة، وعليه أنْ يبحث عنها، وإنْ أرشده أحدٌ إلى ما خفي عليه؛ فيجب أن يستمع إليه !

إنَّ المفكر مثل الفيلسوف الذي يُنتج أفكارًا ينتفع بها الناس، ويكشف عن زوايا خفية لم تكن معروفة لهم ولا يروها في العادة، ويُفترض أنّه يُدرك من علل المجتمع ما لا يُدركه بقيَّة الناس، لذلك يمكن القول بأنَّ المفكر بالنسبة للمجتمع كالطبيب.


ينتهي المفكر ويفقد مكانته في المجتمع، لا أقصد كشخص، ولكن أقصد (كقيمة) أو بشكل آخر متى (يموت المفكر)؟ يموت المفكر عندما يكون (بوقا) لجهة من الجهات، ويسخر تنظيره وفكره لشيءٍ غير مقتنع به، بل ربما لا يقول به الصبيان. فالإنسان عندما يكون أجيرًا أو موظفًا لا يكون (مفكرا). وأيضًا يموت المفكر عندما يتوقف عن التفكير وعن الإنتاج، فيصبح وكأنَّه مع الأموات لأنَّ حياته في إنتاجه واستمرار عطائه.[2]

ويقول علي شريعتي عن معنى أن تكون مفكرا: إن المفكر المستنير لا هو بالفيلسوف ولا هو بالعالم ولا هو بالكاتب، وانما هو ذو وعي ذاتي يحس بروح عصره وحاجيات مجتمعه، وعنده رؤية ذات اتجاه محدد، ولديه أيضا قيادة فكرية. وهذا الوعي والرؤية يتحققان وينضجان في مسيرة التجربة الاجتماعية.


المفكرون هم الذي يواصلون العمل الذي تعهد به الرسل في التاريخ، والآية القرآنية الكريمة (وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ) تعني أن من تعهد بإيقاظ الناس وهدايتهم عليه أن يتحدث إليهم بلغتهم، هذا اللسان، هو ثقافة قوم ما وروحهم وعواطفهم وحاجاتهم وآلامهم ومتاعبهم وأمانيهم، والجو الفكري والاجتماعي عندهم.

والمفكر إرادة واعية، وهو عالم بهذه الحقيقة القائلة: "إنه كلما كان الناس أكثر علما بالحتمية التاريخية والقوانين العلمية للحياة والحركة الاجتماعية وبنية مجتمعهم، وكلما نضج وعيهم الذاتي الإنساني والاجتماعي نضجا علميا وصحيحا؛ سوف تكون لديهم القدرة أكثر علي تحطيم الحتمية التاريخية والطبيعة الاجتماعية التي فرضت عليهم قسرا وفي غفلة منهم، ومن هذا الطريق فحسب؛ يستطيع الناس أن يصبحوا الصناع الواعين في المجتمع ".

إن المفكر الحقيقي هو الذي يتعالى على أي انتماء؛ لأنه يشعر بالمسئولية العالية تجاه الآخرين والدفاع عن حقوقهم، دون اعتبار سوى لكونه إنسانا. انه الضوء الذي ينير الطريق في غياهب الأحقاد والظلم الذي يدب في المجتمع ويجعل الناس بعيدين عن رؤية السبب الحقيقي لما هم فيه.

وأعظم مسؤوليات المفكر في مجتمعه، هي أن يجد السبب الأساس والحقيقي لانحطاط المجتمع، ويكتشف السبب الأساس للركود والتأخر والمأساة بالنسبة لمواطنيه، ثم يقوم بعد ذلك بتنبيه مجتمعه الغافل إلى السبب الأساس لمصيره وقدره التاريخي المشؤوم، ويبدي لمجتمعه الحل والهدف، وأسلوب السير الصحيح الذي يلزمه من أجل أن يتحرك ويتخلص من هذا الوعي. ويقوم بنقل المسؤولية التي يحسها هو من طائفة المفكرين المحدودة إلي السواد الأعظم لمجتمعه.[3]


[1] الواجب الفكري في واقع الأمة ، حسن بن حسن

[2] يقظة فكر حوار مع د. عبد الكريم بكار (يجب على المفكّرين أن يأخذوا دورهم الريادي ويساهموا في إيجاد حراك اجتماعي)

[3] العودة الي الذات، علي شريعتي (ص 407 ، 444)

التعليقات

يوجد 1 من التعليقات

عبد التواب الضرعمي

2017-02-09 13:04:39

مقال جميل جدا ننتظر مزيدا من العطاء