عملية ٧ أكتوبر: تحرير أسرى أم كسر إرادة البقاء؟


اسم الكاتب : نايف بن نهار

المشاهدات : 22941

من يعتقد أن عملية 7 أكتوبر هدفها تحرير الأسرى فقط فمن الطبيعي أن يرى حماس مخطئة؛ فما الفائدة من تحرير مجموعة من الأسرى مقابل استشهاد أضعافهم؟ لكن هل كان هذا هو هدف حماس فعلاً؟ لا يبدو ذلك، فلو كان هذا هو هدفها لكان يكفيها أن تأسر جنديين أو ثلاثة ثم تقايضهم بمن تشاء، كما فعلت في 2006 حين أسرت الجندي شاليط وحررت مقابله ألفي أسير فلسطيني.

لكن حماس في 7 أكتوبر فعلت شيئًا مختلفًا، فقد أطلقت حوالي 4 آلاف صاروخ، وأسرت وقتلت مئات الصهاينة، واستولت على قواعد ومراكز عسكرية، فما علاقة كل ذلك بتحرير الأسرى؟ إن طبيعة الوسيلة تخبرك عن طبيعة الهدف، وهذه الوسيلة التي ابتغتها حماس لا تدل أبدًا على أن الأمر متعلق بالأسرى، فماذا كان هدف هذه العملية؟

واضح من طبيعة هذه العملية أن حماس تهدف إلى ضرب الفكرة المركزية التي يقوم عليها الكيان الصهيوني، وهي فكرة "إرادة البقاء"، هذه الفكرة هي الوقود الذي يضمن استمرار الكيان الصهيوني، وعملية 7 أكتوبر تبدو مفصّلة تمامًا على مقاس هذا الهدف.

ما معنى "إرادة البقاء"؟

إن الوضع الطبيعي في كل العالم أن يوجد مجتمع ثم يصنع له دولة، إسرائيل هي الحالة الوحيدة التي وُجِدت الدولة ثم بحثوا لها عن مجتمع، ولذلك بعد نشوء الكيان في عام 1948 صدر قانون العودة في 1950 لتشجيع اليهود من كل العالم كي يأتوا ويستوطنوا فيها مقابل مزايا لا نظير لها، مثل الجنسية الفورية، وفرصة عمل، وقروض طويلة الأمد بفوائد قليلة، وإعفاءات ضريبية لعشر سنوات، كل ذلك حتى يقتنع اليهودي بالبقاء في هذا الكيان المصطنع.

لكن الكيان الإسرائيلي يواجه أزمة جوهرية، وهو أنه كيان محتل، ومن احتلهم لا يزالون يقاومونه، والشعوب المجاورة له تكرهه وتتمنى زواله، فكيف يقتنع اليهودي بترك موطنه الأصلي ويأتي للعيش في هذا الكيان وهو مستهدف في أمنه؟

هنا نشأ التحدي الأكبر للكيان الصهيوني، وهو كيف يخلق "إرادة البقاء" لدى مواطنيه ويجعلهم يتغلبون على الهاجس الأمني وقلق الوجود؟ لن يتحقق ذلك إلا إذا قضت إسرائيل على كل المهددات الأمنية الداخلية، وامتلكت ميزة الردع العسكري على أعدائها، ومؤخرًا عززت إسرائيل القناعة الأمنية لدى مواطنيها حين بدأت دائرة التطبيع تتوسع في العالم العربي، ومع أنه مجرد تطبيع مع الحكومات دون الشعوب، فإن إسرائيل تحتاج حتى إلى هذا التطبيع الشكلي كي تقنع مواطنيها بتحقق الأمن وتترسّخ لديهم "إرادة البقاء".

إذن الكيان الصهيوني يقوم على فكرة مركزية، متى ما تزعزعت هذه الفكرة تزعزع الكيان نفسه، وهي فكرة "إرادة البقاء"، وهذه أزمة خاصة بالكيان الصهيوني وحده؛ لأن بقية دول العالم مجتمعاتها أصلية، فإرادة البقاء فيها بدهية، بعكس الكيان الصهيوني الذي يقوم على مجتمع مصطنع يمكنه الرحيل في أي وقت إلى البلد التي جاء منها ولا يزال يحمل جنسيتها.

لماذا نربط عملية 7 أكتوبر بفكرة كسر إرادة البقاء؟

الآن إذا تأملنا طبيعة عملية 7 أكتوبر سنجدها للوهلة الأولى بلا هدف مباشر واضح، ولذلك حار الخبراء في فهم الغاية منها، فلو كان الهدف تحرير الأسرى لاكتفت حماس بأسر مجموعة من الصهاينة وعادت إلى غزة، ولو كان الهدف ربط غزة بالضفة لأكملت مشوارها إلى الضفة وتحرك فرع حماس والجهاد في الضفة إلى غزة، ولو كان الهدف ضرب قاعدة عسكرية معينة لفعلت ذلك واكتفت به، لكن حماس دخلت وصنعت فوضى عارمة في سبع مستوطنات، واستولت على قواعد ومراكز عسكرية، وقتلت مئات الصهاينة، ثم عادت أدراجها إلى غزة، فكيف يمكن تفسير كل ذلك؟

لا يمكن أن نفسّر هذه العملية إلا أنها محاولة لكسر "إرادة البقاء" لدى المجتمع الإسرائيلي، فإذا كان الكيان الصهيوني يقف على بساط "إرادة البقاء" فإن سحب هذا البساط هو الذي يؤدي إلى إسقاطه بالضرورة. وهذا الهدف ينسجم مع طبيعة عملية 7 أكتوبر، فحين لجأت حماس إلى بث الفوضى الأمنية في المستوطنات كان ذلك رسالة واضح لكل مواطن إسرائيلي بأن كل ما تسمعه من الكيان الصهيوني عن "الأمن الإسرائيلي الصلب" هو مجرد أوهام، فقد استطاعت حماس بسياراتها العادية أن تخترق حوالي خمسين كيلو في عدة ساعات، وأن تأسر وتقتل المئات، وأن تسيطر على قواعد ومراكز عسكرية، فأيُّ أمنٍ بعد ذلك يمكن أن يقتنع به المواطن الإسرائيلي؟

إن المواطن الإسرائيلي سيتساءل بعد عملية 7 أكتوبر: إذا كانت حماس استطاعت اختراق خمسين كيلو في عدة ساعات، فماذا ستفعل في المرة القادمة؟

لا شك أنه سيناريو مرعب لا يتمنى أن يرى نفسه أو أبناءه فيه، وهذا تحديدًا ما تسعى حماس لترسيخه في وعي المواطن الإسرائيلي فتنكسر لديه إرادة البقاء، وانكسار إرادة البقاء يعني بدء أكبر هجرة عكسية في تاريخ إسرائيل، وهو ما يعني دخولها في حالة من الموت البطيء.

لكن هل ستنجح حماس في مشروع "كسر إرادة البقاء"؟

نجاح مشروع كسر إرادة البقاء لدى المجتمع الصهيوني يتطلّب أمرين:

الأمر الأول: توجيه ضربة تربك القناعة الأمنية لدى المجتمع الإسرائيلي.

الأمر الثاني: بقاء مصدر هذه الضربة مستمرًا.

حماس أنجزت الأمر الأول في السابع من أكتوبر، أما الأمر الثاني فهو التحدي الحقيقي الذي تواجهه حماس اليوم، وهذا التحدي ستنجح فيه حماس في حالة واحدة فقط، وهي إذا توقفت الحرب وبقت حماس متماسكة إلى مستوى أنها لا تزال تشكّل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل؛ في هذه الحالة فقط سوف يكتمل الركن الثاني من مشروع "كسر إرادة البقاء"، وهو بقاء مصدر التهديد قائمًا.

أما إذا استطاع الجيش الإسرائيلي تحييد حماس في غزة فعليًا فهنا يمكن الحكم بأن عملية 7 أكتوبر فشلت في تحقيق هدفها، وأن حماس أخطأت في تقدير المسألة.

كسر "إرادة القتال" لدى الجيش الإسرائيلي

حتى تنجح حماس في تحقيق الركن الثاني من معادلة كسر إرادة القتال (وهو إيقاف الحرب وبقاؤها متماسكة) فإنها الآن تسعى إلى مشروع آخر، وهو "كسر إرادة القتال" لدى الجيش الإسرائيلي. ومصطلح كسر إرادة القتال يعني خلق حالة إحباط لدى الطرف المقاتل بما يفقده الدافعية للاستمرار، وقد اتبعت حماس أسلوبًا مهمًا في صناعة الإحباط، وهو توثّيق استهدافها لجنود الصهاينة بشكل يظهر وكأنها تتلاعب بهم، وأنها قادرة على الوصول إليهم بكل سهولة، وحتى مدرعة النمر التي اعتقد الجيش الصهيوني أن جنوده سيكونون بأمان داخلها استطاعت حماس استهداف بعضها وقتل من فيها.

حين يرى الجندي الصهيوني انكشاف زملائه أمام قوات حماس، وسهولة اصطيادهم فإن هذا يخلق حالة إحباط لديه، وهو ما يؤدي إلى كسر إرادته في القتال فيؤثر ذلك في استمرارية الحرب، وقد رأينا بالأمس نموذجًا على ذلك حين انسحبت سريتان من أرض المعركة فأقال الجيش ضابطيها.

هذا علاوةً على أن صمود حماس إلى الآن هو من أهم الأسباب التي تؤدي إلى كسر إرادة القتال لدى الجيش الإسرائيلي، فبعد حوالي شهرين من القصف العنيف، وإلقاء الجيش الإسرائيلي بكل ثقله على غزة، فإنه إلى اليوم لم يستطع أن يأسر عنصرًا واحدًا من حماس، ولم يستطع أن يسيطر على أكثر من عشرين بالمئة من القطاع، وكلما تأخر الحسم العسكري زادت حالة الإحباط في صفوف الجيش الإسرائيلي.

الفكرة أن كل ما تفعله حماس الآن عسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا يهدف إلى شيء واحد، وهو كسر إرادة القتال لدى الجيش الإسرائيلي، وكسر إرادة القتال يؤدي أتوماتيكيًا إلى كسر إرادة البقاء، وهو الهدف الأساس.

التوقيت الذكي لعملية 7 أكتوبر

مما يساعد حماس اليوم على كسر إرادة القتال لدى الجيش الإسرائيلي أنها اختارت توقيتًا مثاليًا للمعركة، فالغرب اليوم يعيش حالة استنزاف حقيقي بسبب الحرب الأوكرانية، وهو بالكاد يطيق تبعات تمويل هذه الحرب، فكيف له أن يضيف إلى ذلك تكاليف الحرب الإسرائيلية؟

إن الاقتصاد الإسرائيلي يكاد يتحول الآن إلى اقتصاد غير منتج، فقد انخفضت 70% من صادرات الغاز، وحقل "تمار" للغاز توقف تمامًا، وبلغ عجز الميزانية لأول شهر من الحرب حوالي 6 مليارات دولار، وضخت حوالي 7 مليارات لأجل احتياطي العملات النقدية، ويكفي معرفة أن التكلفة اليومية لهذه الحرب تبلغ حوالي 260 مليون دولار.

واستدعت إسرائيل حوالي 350 ألف (18% من القوى العاملة) للخدمة العسكرية، وهؤلاء تركوا شركاتهم ومصانعهم ومزارعهم، حوالي 12 ألف مزارع التحق بجنود الاحتياط، وهو ما أدى إلى أزمة في الغذاء وأسعاره، ونتيجةً لكل ما مضى فقد سجل سبعون ألف مواطن إسرائيلي في سجلات البطالة.

الشاهد أن التكلفة الاقتصادية لهذه الحرب هائلة جدًا، والغرب لا يستطيع أن يضخ فيها بالتزامن مع الضخ الذي يقدمه لأوكرانيا، وملف أوكرانيا لا يمكن تأجيله؛ لأن انكسار أوكرانيا يعني سقوط مقدمة أوروبا بيد بوتين، أما ملف حماس فيمكن تأجيله إلى ظروف أفضل في اعتقادهم، ولذلك سيضغط الغرب على إسرائيل لإيقاف الحرب في أسرع وقت ممكن.

ويبدو أن حماس أخذت بالاعتبار أن مجيء الجمهوريين في السنة القادمة سيجعل الأمر أكثر صعوبة عليهم، فالإدارة الديمقراطية يمكن اختراقها عبر الأدوات التقليدية، ويمكن الضغط عليها من خلال أجندة الحزب الديمقراطي نفسه، لذلك لا يسع حماس تأجيل هذه العملية حتى لا تتورط مع الجمهوريين.

كما أن اندلاع العملية قبل عام واحد من الانتخابات الأمريكية هو كذلك مؤشر حاسة استراتيجية عند حماس، فلن تفضّل الإدارة الأمريكية _وهي على بوابة الانتخابات_ أن تدخل في حرب طويلة الأمد تتصاعد الاعتراضات عليها يومًا بعد يوم داخل الحزب الديمقراطي نفسه وحاضنته الانتخابية، وهذا ربما ما جعلنا نرى بايدن نفسه يغيّر خطابه تجاه غزة في اليومين الماضيين، فقد صرّح بأهمية إيقاف إطلاق النار بعد أن كان يقول مرارًا بأن فكرة إيقاف إطلاق النار فكرة "سيئة" و "شريرة"!

هذا من الناحية الدولية، أما إقليميًا فجميعنا يدرك تسارع وتيرة التطبيع مع إسرائيل، والتطبيع سيزيد من محاصرة حماس وتضييق الخناق عليها، ولذلك من المنطقي أن تسارع حماس بهذه العملية قبل اكتمال حفلة التطبيع. كما أن حماس تراهن على أنها في حال بدأت الكفة تميل لصالح الصهاينة فإن ذلك سيضغط على حلفائها في المنطقة مما يضطرهم لتوسيع دائرة الصراع بشكل من الأشكال، وهو ما يزيد الضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب.

الخلاصة أن حماس سعت إلى تدمير فكرتين أساسيتين لا يقوم المشروع الصهيوني إلا بهما: فكرة "إرادة البقاء" لدى المجتمع الإسرائيلي، وفكرة "إرادة القتال" لدى الجيش الإسرائيلي، سعت إلى تدمير إرادة البقاء من خلال عملية 7 أكتوبر التي كشفت للمجتمع الصهيوني وهم ما يسمى "الأمن الإسرائيلي الصلب"، وهذا يزعزع فكرة البقاء ويحفّز خيار الرحيل. أما كسر "إرادة القتال" فسعت إليه حماس من خلال إطالة أمد الحرب، والحرب النفسية عبر توثيقاتها الإعلامية، واختيار التوقيت المثالي لهذه المعركة.

التعليقات

يوجد 8 من التعليقات

عيسى المطر

2023-11-29 09:13:17

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بارك الله فيك وفي جهودك وفي مقالك وتحليلك الأكثر من رائع نتمنى الاستمرار والتطور والانتشار، وندعوا الله أن يكثر من أمثالك الذين بهم تنهض الأمة

مهند التميمي

2023-11-29 12:56:21

أبدعت دكتور وشكرا على هذا الفهم والتحليل العميق للمشهد . جزاك الله خيرا

Rawad Almazloum

2023-11-29 14:28:10

شكرا الله لكم! حبذا لو ترجمت مقالاتكم إلى اللغة الإنجليزية. أستطيع المساعدة في ذلك لو أحببتم. أنا خريج أدب انجليزي بفضل الله.

Mouhamade wague

2023-11-29 20:52:39

شكر الله سعيكم

Medo

2023-11-29 23:50:21

احسنت

مريم

2023-11-30 10:02:21

تحليل مميز للامور, نشكرك دكتور. لكن عندي سؤال: هناك من يقول ان اسرائيل تملك جهاز استخباراتي وعسكري متقدم جدا, في ذلك اليوم هي من سمحت لحماس بالدخول وكانت على علم مسبق بذلك. وذلك لتحقيق اجندتها بالاستيلاء على غزة وغير ذلك. ما رأيك بهذا الادعاء؟ لأنه بناء على مقالك, لا يبدو هذا واردا.

محمد العمران

2023-12-08 06:20:57

بارك الله فيك وانشالله تكون علم في رفع كلمة الحق ونشر اهداف الدين ونور يهتدى إليه الناس بك وبأمثالك تقوم الأمه وتزدهر بارك الله فيكم

د هناء

2023-12-08 14:30:59

هو الغرض الأول والوحيد، من كل مقاومة شعبية للمحتل الغاصب للأرض عبر العصور، زعزعة استقرار المحتل وضرب الأمان المزعوم في وطن مسلوب من أهله. وسيبقى زلزال مقاومة صاحب الدار الحقيقي ينقر في استقرار المستوطن المدعي لأحقيته بالارض٫ مهما تغيرت قيادات المقاومة ومهما تغيرت مسميات حركات المقاومة يبقى هدفها الاسمى واحد.