صعود القومية الهندوسية: الأسباب والمآلات
اسم الكاتب : رَاجِيب نيوبان، باحث في المعهد الآسيوي للدبلوماسية والشؤون الدولية (AIDIA)
المشاهدات : 22955
تُعدُّ شبه القارة الهندية موطن الديانة الهندوسية الأصلي. ولكنْ نظرًا للحكم الإسلامي الذي دام قرونًا، والاستعمار البريطاني، أصبحت الهند اليوم نتاجًا خليطًا للثقافة الهندوسية والإسلامية والبريطانية. ويعلن دستور الهند الحديثة، الذي صدِّق عليه عام 1976، أن الهند دولة علمانية. غير أن تطبيق النموذج العلماني في الهند أصبح تحديًا صعبًا؛ بسبب التوترات بين الأغلبية والأقلية، حيث يمثِّل المنتمون إلى الطوائف الهندوسية أغلبية، والباقي كأقليات. ومنذ صعود حزب الشعب الهندي (حزب بهاراتيا جاناتا BJP)، تحديدًا خلال 1990، و2014، و2019، ظهرت هندوتفا (Hindutva) كأيديولوجية سياسية في المجتمع الهندي إشارةً إلى "القومية الهندوسية".
وفي هذه المقالة، أحاول أولًا استكشاف أسباب ظهور القومية الهندوسية، من خلال إبراز الحدث الحاسم الذي أشعل شرارة الأيديولوجية الهندوسية في التاريخ الحديث، وما تبعها من ترسيخ للقاعدة الثقافية والدينية والسياسية. كما أناقش ثانيًا الطموحات الأيديولوجية والسياسية للقوميين الهندوس. وأخيرًا، أقدِّم التحديات الجوهرية لقُوى هندوتفا في تحقيق أهدافها.
ظهور القومية الهندوسية
يسلِّط كاب فِرار (2010) الضوء على "الحدث" باعتباره مركزًا للتحليل الأنثروبولوجي، والذي يفتح استكشافُه مجموعة من الأبعاد الحسَّاسة في إبراز الحقائق الاجتماعية، كما يكشف البحث العميق في هذه "الأحداث أو الممارسات الواقعية" عن الصراعات والأزمات والتوترات الاجتماعية والسياسية في الحياة اليومية. وقد كان هدم مسجد بابري عام 1992 أحد "الأحداث الحاسمة" الذي أدَّى إلى تفاقم التوترات والخلافات الدينية في جميع أنحاء الهند، حيث تلتْه موجة عارمة من أعمال الشغب، إلى جانب صعود السياسة الدينية اليمينية، ما أدَّى إلى اهتمام حزب الشعب الهندي بدراسة هندوتفا والقومية الهندوسية في السنوات الأخيرة (Bhagavan, 2008; Sharma, 2011).
يقترح أندرسون (2006) فكرة القومية باعتبارها "خروجًا على القياس" (The ‘anomaly’ of nationalism) حيث يرى أن هذا المفهوم مجرد قطعة أثرية ثقافية. وأن هناك تنمية تاريخية لمثل هذه القطع الأثرية التي تتبع مسارًا معينًا، ويتم طرحها كنموذج أوَّلي "معياري" للوعي الذاتي، باعتبار أن لديه إمكانية الاندماج مع نظام سياسي أو أيديولوجي معين. وقد عرضت المنظمات ذات الانتشار الواسع كالاتحاد الوطني للخدمات الذاتية (RSS)، والمجلس الهندوسي العالمي (VHP)، بجانب حزب بهاراتيا جاناتا "هندوتفا" كأيديولوجية يتم على أساسها تحديد المسلمين وغيرهم من الأقليات الهندية على أنهم "دُخلاء". ولكن يمكن استيعابهم في الهوية الوطنية الأغلبية، بمفهومها الأوسع، بشرط قبولهم "الثقافة الوطنية"، التي تنظَّم في إطار القومية الهندوسية، وهذا ما يوضِّحه حتى الأفكار الاقتصادية العامة لحكومة حزب الشعب الهندي (شاكو ، 2019 ؛ شارما ، 2011). وهكذا أصبح الخطاب القومي الذي تشكِّله قُوَى هندوتفا اليوم يجسِّد نموذجها الأيديولوجي الأولي والظروف الاجتماعية والسياسية للمجتمع الهندي.
حملة تنصيب القومية الهندوسية كأيديولوجيا في الهند
أصبحت القومية الهندوسية قوة سياسية بارزة في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى، وقد تغللت إلى حد كبير في جميع مفاصل السياسة الهندية، ويظهر خطاب وأفعال هندوتفا في الطموحات الأيديولوجية والسياسية للقوميين الهندوس الذين يحاولون الضغط على أجهزة الدولة للاعتراف بالهندوسية على أنها تعريف وتحديد لهوية الهند، وقد تجلَّت مظاهر هندوتفا في شكل اعتداءات وحشية بين الهندوس من جانب والمسلمين وغيرهم من جانب آخر. وقد أثارتْ أشكال التعصب الديني والعنف وأعمال الشغب هذه تساؤلات حول النموذج الديمقراطي والعلماني والجمهوري الذي طالما افتخرت به الهند. غير أن شارما (2011) يؤكد أن ظاهرة القومية الهندوسية المتطرفة حديثة نسبيًا، ويمكن تفسير ظهورها من جديد في ضوء العلاقة المتوترة بين التقليد والحداثة.
يرى ألتوسير (1970) أن الأيديولوجيا نظامٌ للأفكار والتصورات التي تتحكَّم في عقل الأفراد أو مجموعة اجتماعية. وهذا ما يظهر جليًا في تصرفات نشطاء هندوتفا، حيث يهتمون باستغلال أغلبيتهم للتدخل في النظام الثقافي والتعليمي، وتشمل استراتيجياتهم الرئيسة دمجَ تفسيرات هندوتفا في الكتب المدرسية، وفرض كتب معينة في المجال الاجتماعي والثقافي (Palshik، 2015).
منذ عام 2014، بدا القوميون الهندوس أكثر ثقة في أنفسهم، وذلك بسبب دعم حكومة حزب الشعب الهندي لهم، حيث إن الصعود المتزايد لأيديولوجية هندوتفا من خلال RSS وتحالفاتها محسوس في جميع أنحاء المجتمع الهندي، وقد حققت هذه التحالفات نجاحات في مجالات التعليم، والجامعات، والمؤسسات الثقافية والاقتصادية والقضائية، وكل جوانب الحياة العامة الأخرى (Anderson & Arkotong، 2018). ومن الواضح أن حزب الشعب الهندي وحلفاءه يُعِدُّون أنفسهم لتأسيس هندوتفا كأيديولوجية في عموم الهند.
يجادل غيرتز (1973) بأن الأيديولوجيا لها موقف "مزدوج" يتمثَّل في "نحن-الخير" و"هم-الشر"، معتقدًا أن الشخص الذي ليس معي فإنه بالضرورة ضدي. وهو "شاذ"، باعتبار أنه لا يثق في الأشكال الأخرى من المؤسسات، ومن هنا يهاجمها، ويحاول تقويضها. يضاف إلى ذلك أن الشخص الأيديولوجي "عقائدي" و "شمولي"، حيث يرى في نفسه أنه الكامل، وأنه يمثِّل الحقيقة، ومن هنا يحمل حقيقة اجتماعية وسياسية تهدف إلى إقامة نظام أيديولوجي على صورة مثُله.
تُعدُّ المسارات الاجتماعية والسياسية المتمثلة في عصور السلطنة والإمبراطورية المغولية والحكم البريطاني تهديدًا لنقاء شبه القارة الهندية في نظر القوميين الهندوس. وتاليًا يصنِّفون الأقليات الدينية التي تنتمي إلى الإسلام والمسيحية على أنهم غزاة، كما يُنظر إليهم على أنهم رعايا خائنة تحتاج إلى الضبط والاندماج في إطار النظام السياسي الهندوسي (Mukta، 2000). وتظهر أكثر النشاطات إثارة للجدل في الحملات والدعوات التي تطالب بعودة المسلمين والمسيحيين إلى الهندوسية، والتي تسمَّى بـ"ghar wapsi" بمعنى "العودة إلى الدار". وكما هو ظاهر فإن هذه الفكرة لا تتحدث عن التحويل، بل تتحدث عن "إعادة تحويل"، مما يعني ضمنًا أن معظم المسلمين والمسيحيين كانوا "في الأصل" هندوسًا، وقد تم تحويلهم من دينهم الأصلي بالقوة، عن طريق الخداع والتهديد؛ فيمكنهم العودة الآن إلى حظيرة الهندوسية مرة أخرى (Palshikar، 2015). وقد ولّدت تكتيكات التشكيل الخطابي هذه سجالات حول ما إذا كان يجب مساواة الهوية الهندوسية بالهوية الوطنية أم لا؟
ويبدو أن القومية الهندوسية اليوم تشق طريقها نحو "النهضة الهندوسية"، وذلك من خلال إعادة صياغة التقاليد التاريخية. ومن المثير للاهتمام أن نرى دمج الأيديولوجية الدينية مع سياسات حكومة حزب الشعب الهندي وطرحها الحاذق للقومية الدينية-القومية الهندوسية. وبنبرة مختلفة قليلاً، يكشف شاترجي (1993) السمات الأولية للقومية على أنها معادية للاستعمار؛ فيُنظر إلى المؤسسات والممارسات الاجتماعية من بُعدَيْها "المادي" و "الروحي"؛ حيث يمثِّل الأول الاعتراف "بالخارج"، أي الصناعات الوطنية والاقتصاد والابتكار. في حين يمثل الداخل (الروحي) الأشكال الأساسية للهوية الثقافية. ويبدو الاهتمام التكتيكي لحكومة حزب الشعب الهندي في تركيزها الشديد على "التنمية المادية". بالإضافة إلى طرح أجندة هندوتفا بمهارة.
التحديات
يستعرض فوكو (1991) مفهوم الحكمانيَّة (Governmentality) الذي يناقش بشكل واسع العلاقة بين "الموضوع والسلطة"، حيث إن الحكومة عملية بناء موضوع الحكومة وتأليفه على وجه التحديد. غير أن الفكرة الأساسية فيها هي إدارةُ السلوك (Conduct of Conducts) التي تقتضي الإدارة، والقيادة، والسيطرة، أو التحكم في شخص ما (أو الموضوع). وفي ضوء مفهوم الحكمانيَّة هذا يُلاحظ أن الاستراتيجية السياسية للقوميين الهندوس في الهند ليست سلسة. فحين يحاولون إدارة الدولة فإنهم يناهضون العلمانية، كما يحملون توجهات متطرفة تجاه الأقليات، ومن هنا نشأتْ توترات حادَّة بين الروايات النظرية للعلمانية، التي تم التصديق عليها في الدستور الهندي، والممارسات السياسية، حيث إن الصراع الدائر بين الأديان والتحيزات الدينية الأحادية على نطاق واسع يعارض المثُل العليا للعلمانية المتمثلة في دستور الهند. وتاليًا يكمن التحدي الرئيسي للدولة الهندية في سد الفجوة بين رعاياها الذين ينتمون إلى عقائد وديانات وتقاليد ثقافية متعددة (فيرما ، 2016).
وتحاول القومية الهندوسية الصاعدة تنصيب الدولة القومية الهندوسية المتمثلة في المُثُل الهندوسية الموحَّدة. وفي المقابل تكون المجتمعات الأخرى والمواطنون الآخرون، لا سيما الأقليات المسلمة التي لا تنتمي إلى هذه المثُل، في حالة محفوفة بمخاطر نزع الشرعية منهم (Mukta، 2000)، وتاليًا فإن الجهود المبذولة لإضفاء الشرعية على مثُل الأغلبية ونزع الشرعية من الأقلية بناءً عليها، لا بد أن يزعج التماسك الداخلي للمجتمع الهندي.
خاتمة
أصبحت هندوتفا كأيديولوجية سياسية أكثر ظهورًا مع زيادة دعم حكومة حزب الشعب الهندي لهذا التوجه، وقد أدَّى ذلك إلى زيادة التوترات الدينية والخلافات الداخلية في المجتمع الهندي، حيث يُصنَّف المسلمون والأقليات الأخرى على أنهم "دخلاء"، وتاليًا يُصبِحون ضحايا العنف المنظم في أوقات مختلفة. وتظهر الأنشطة المتطرفة للقوميين الهندوس في مجالات السياسة والتعليم والثقافة التي تعزز المثُل الهندوسية، وهي ما أثارت تساؤلات، بطبيعة الحال، حول النموذج العلماني الهندي ومبدأه الديمقراطي. ويبدو أن فكرة الطموحات الأيديولوجية والسياسية لتنصيب هندوتفا كأيديولوجية حاكمة متدخلة في النظام الثقافي والتعليمي متنازعٌ عليها بشدة في الثقافة الهندية والمجتمع الهندي. وتؤدي رغبة القوميين الهندوس إلى ضمان هيمنة الهندوسية وتفكيرها الموحَّد إلى سلسلة من الصراعات الدينية والتحيزات المذهبية، ما يجعل هذا الموضوع خطيرًا للغاية بالنسبة إلى الأفراد الذين لا ينتمون إلى الهندوسية. ومع تزايد الحملات الجارية على مستويات مختلفة، أصبح من الصعب تتبُّع مسارات القوميين الهندوس وأجنداتهم اجتماعيًا وسياسيًا.
المصادر
- Althusser, Louis. "Ideology and ideological state apparatuses. 1970." Repéré à (2001).
- Anderson, Benedict. Imagined communities: Reflections on the origin and spread of nationalism. Verso books, 2006.
- Anderson, Edward, and Arkotong, Longkumer. "Neo-Hindutva: evolving forms, spaces, and expressions of Hindu nationalism." (2018): 371-377.
- Bhagavan, Manu. "The Hindutva underground: Hindu nationalism and the Indian National Congress in late colonial and early post-colonial India." Economic and political weekly (2008): 39-48.
- Chacko, Priya. "Marketizing Hindutva: The state, society, and markets in Hindu nationalism." Modern Asian Studies 53, no. 2 (2019): 377-410.
- Chatterjee, Partha. The Nation and its Fragments. Princeton University Press. Whose Imagined Community, 1993.
- Foucault, Michel. The Foucault effect: Studies in governmentality. University of Chicago Press, 1991.
- Geertz, Clifford. The Interpretation of Cultures: Selected Essays. “Ideology as a cultural system” New York: Basic Books, 1973.
- Kapferer, Bruce. "Introduction: in the event—toward an anthropology of generic moments." Social Analysis 54, no. 3 (2010): 1-27.
- Palshikar, Suhas. "The BJP and Hindu nationalism: Centrist politics and majoritarian impulses." South Asia: Journal of South Asian Studies 38, no. 4 (2015): 719-735.
- Mukta, Parita. "The public face of Hindu nationalism." Ethnic and racial studies 23, no. 3 (2000): 442-466.
- Sharma, Jyotirmaya. Hindutva: Exploring the idea of Hindu nationalism. Penguin Books India, 2011.
- Verma, Vidhu. "‘Secularism in India’, in the Oxford Handbook of Secularism." (2016).
ترجمة: حسين محمد نعيم الحق
مُراجعة: د. نايف بن نهار
التعليقات
يوجد 0 من التعليقاتلا يوجد تعليقات