موقف المؤرخ العربي جواد علي من كتابات بعض المستشرقين عن السيرة النبوية


اسم الكاتب : جواد علي

المشاهدات : 1603

يقول جواد علي في كتابه تاريخ العرب في الإسلام: ومن هنا أخذ على بعض المستشرقين تسرعهم في إصدار الأحكام في تأريخ الإسلام، وتأثرهم بعواطفهم، لأخذهم بالخبر الضعيف في بعض الأحيان؛ وحكمهم بموجبه، ولإصدارهم أحكاماً بنيت على الألفاظ المشتركة أو التشابه مع قولهم بوجوب استعمال النقد، وباحتراسهم في الأمور، ووجوب التأكد من معرفة الآخذ قبل الحكم عليه، ولا سيما أن الساميين أسرة واحدة كما يدعي المستشرقون، يشتركون في كثير من الأمور، ويتفقون في كثير من الآراء، ومن الصعب تعيين الناقل عن الأصل الذي يرجع الكل إليه.

وآية ذلك أن معظم المتسشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين، أو من المتخرجين من كليات "اللاهوت". وأنهم إن تطرقوا إلى الموضوعات الحساسة من الإسلام، حاولوا جهداً إمكانهم ردها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من يهود، وخاصة بعد تأسيس "إسرائيل" وتحكم الصهيونية في غالبيتهم، يجهدون أنفسهم لرد كل ما هو إسلامي وعربي إلى أصل يهودي. وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء.

لقد غالى كثير من المستشرقين في كتاباتهم في السيرة النبوية، وأجهدوا أنفسهم في إثارة الشكوك في السيرة. وقد أثاروا الشك حتى في اسم الرسول. ولو تمكنوا لأثاروا الشك حتى في وجود النبي. وطريقة مثل هذه دفعتهم إلى الاستعانة بالشاذ والغريب، فقدموه على المعروف المشهور، استعانوا بالشاد ولو متأخراً أو كان من النوع الذي استغربه النقدة وأشاروا إلى نشوزه. تعمدوا ذلك لأن هذا الشاذ، هو الأداة الوحيدة في إثارة الشك. ومهما قالوه في نسبة التأريخ الصحيح في سيرة الرسول، فإن سيرة الرسول هي أوضح وأطول سيرة نعرفها بين جميع الرسل والأنبياء.

ومن هذه الطائفة "شبرنكر A. Sprenger"، والمستشرق الإيطالي "الأمير كيتاني". والأول هو مؤلف كتاب:  das leben und die lehre des Mohammed في السيرة النبوية، وهو في ثلاثة مجلدات. وقد حاول جهد إمكانه الإحاطة بكل ما كان معروفاً في زمانه من موارد عن السيرة، ومناقشته وتدقيقه ونقده، على وفق طرق البحث الحديثة التي كانت معروفة في ذلك العهد، وهو مشكور على جهده هذا وعمله في هذه الناحية. كما يشكر كل مؤرخ وباحث يسير على هذا النهج ويتبع طريقة النقد الخالص، ولكنه ويا للأسف لم يتمسك بالنقد العلمي تماسكاً صحيحاً، بل جرى مع عاطفته وذهب مذهباً شاذاً جعله يأخذ بالخبر الغريب الضعيف، لمجرد أنه غريب غير مألوف. ثم يقدمه على الأخبار المشهورة أو المتواترة، ويبني عليه أحكاماً. ويأتي بآراء تبدو لمن ليس له علم بالأخبار وبالروايات المتعددة في كتب السير والتواريخ والتفسير والحديث، أنها آراء جديدة حسنة، تشف عن عمق في البحث وتوسع في النقد وصبر على غربلة الأخبار عجيب مقدر فهو يذكر الآراء، ويدوِّن الروايات قديمها ومتأخرها، ثم يناقشها ويفندها ويصححها، ويطعن في هذا الراوي ويقوم هذا الخبر، ولكنه، وهذا هو الغريب منه، أخذ في كثير من الأماكن بالخبر الغريب المتأخر الشاذ وبالروايات الإسرائيلية والأخبار المدسوسة، فأقام لها وزناً وجعل لها اعتباراً، ثم بنى عليها أحكامه، وكان عليه التفريق والتمييز بين المتأخر والمتقدم من الأخبار، ودراسة سند كل خبر ورواية، والتعرّف إلى آراء العلماء في أولئك الرواة وحملة الخبر من حيث صدقهم وكذبهم، ودراسة كل نص دراسة عميقة من الناحيتين: انطباق مضمون الرواية والخبر على روح الإسلام وأحكام القرآن والحديث وروح عصر الرسول، ودراسة النص من الناحية اللفظية، لينظر إذا كان صحيحاً ينطبق عليه أسلوب الزمن الذي ترجع الرواية إليه.

ومن هنا جاء بآراء مغلوطة، قد تكون سرته وأعجبته وأقنعته بأنه قد كشف هفوات وأغاليط في السيرة، وأنه قد نجح في إثارة كثير من الشكوك سيقف عليها الناس في تأريخ الرسول. ولكنه في الواقع لم يأت بشيء جديد، فإن ما ذكره وأورده لم يكن من لدنه ولا من طفره به في موارد لم تكن معروفة، بل هو مسطور في كتب السير المطبوعة والمخطوطة، وقد قرأه الناس، لم يجدوا في ذلك حرجاً ولا غضاضة. وكل ما فعله هو أنه – كما قلت – اختصر تلك الأخبار ثم ناقشها ونقدها وبيّن ما فيها من قوة أو ضعف، إلا أنه بدلاً من أن يستمر في نقده على وفق الأسلوب العلمي، ركبه هوس حب الخبر الغريب النادر، فقدمه على المشهور المتواتر، وأخذ بالروايات الضعيفة وبالقصص الإسرائيلي وبروايات الضعفاء، مع نص العلماء على فسادها فقواها وساندها وأقام لها وزناً، واستند إلى أخبار "السيرة الحلبية" كثيراً، وفي هذه السيرة كما هو معروف حشو وقصص إسرائيلي نبه عليه العلماء، فكان عليه أن يدرك ذلك، ولكنه لم ينتبه، ولم يأخذ بوجوب تطبيق أصول النقد عليها، فوقع ويا للأسف عمداً أو سهواً في أغاليط وفي أحكام فندها جماعة من المستشرقين.

أما (كيتاني)، فقد سلك أيضاً مسلك (شبرنكر) في دراسة السيرة من ناحية الرجوع إلى موارد كثيرة ومن الإحاطة جهد إمكانه بكل ما ورد عن سيرة الرسول ومن دراسة كل خبر ونقده والبحث عن رواته، ووقع في مثل أغاليطه. فقد أولع بالخبر الغريب، وأخذ بالروايات المتأخرة الضعيفة التي لا نجد لها أصولاً في كتب السيرة القديمة وفي الموارد الأخرى، وأبدى فيها آراءه مبنية على العاطفة في الغالب، فوقع من ثم في تلك الأغلاط. وقد أثار (كيتاني) كثيراً من التحفظات والشكوك في الذي كتبه عن الرسول أعجبت المعجبين المولعين بطريقة المستشرقين في البحث  وفي كتابة التأريخ، دون أن يطلعوا بالطبع على مواطن الضعف عند هؤلاء المستشرقين، كما أنه تهجم على بعض الرجال مثل (ابن عباس) فاتهمه بالكذب، لورود روايات يرجع سندها إليه، وهي متناقضة أو غير صحيحة، فحكم عليه حكمه القاسي من غير أن يفطن إلى أن كثيراً مما أسند إلى ابن عباس هو مما دس عليه، وليس له دخل فيه، لأنه أضيف إليه فيما بعد لأسباب عديدة سياسية وغيرها لا مجال هنا للبحث فيها. وقد بحث فيها بعض العلماء وأشاروا إلى "سلسلة الكذب"، التي يصلها الرواه الضعفاء بابن عباس، كما بحثوا في الإسرائيليات التي أضيفت إليه؛ وقد أخذها "كيتاني" وغيره على أنها أخبار صحيحة وردت عنه حقاً!

وطريقة هذه الطائفة وتلك من المستشرقين في النقد جعلت بعض المؤرخين الإسلاميين يتهيبون أساليب أصحابها ويرمون الداعين إليها بتهمة الغرض والقصد السيء وهم لا يقصدون من ذلك الأعراض البات من النقد، وعدم تمحيص الروايات وجرحها بل هم ينكرونها لأنهم يرون في هذا النوع من النقد الذي يدعون إليه مخالفة لقواعد النقد وأصول البحث، لأنه تعد قائم على قصد معين، ورأي مقرر، وليس ذلك النقد إلا وسيلة مصطنعة لإثبات ذلك القصد.

التعليقات

يوجد 0 من التعليقات

لا يوجد تعليقات