لماذا تنهار الأخلاق الغربية بهذه السرعة؟


اسم الكاتب : نايف بن نهار

المشاهدات : 8031

منذ العصر الأثيني إلى يومنا هذا لم يستقر الغرب في علاقته مع الدين والعقل، ففي العهدين الأثيني والروماني كان الغرب يمازج بين الدين والعقل، ثم مع دخول القرن الخامس وبدء مرحلة "القرون الوسطى" أقصى الغرب العقل تمامًا ورضي بالدين وحده معيارًا في الحكم على القيم والمعرفة. ثم جاء القرن السادس عشر بحركة الإصلاح التي قادت وساطة كبيرة بين الدين والعقل فأدت هذه الجهود إلى إنهاء القطيعة مع العقل ورجوعه كمساند للدين ومكمّل له، وهذا العصر يسمى عصر النهضة، وفلاسفة عصر النهضة لم يكونوا ضد الدين، بل كانوا ضد أحاديته، كجان بودان، وتوماس هوبز، وجون لوك، وجاك روسو، وديكارت وغيرهم كثير.

لكن العقل الغربي لم يطب نفسًا في علاقته مع الدين برغم استقلاله عنه، وبدأ تدريجيًا يضيق ذرعًا به، إلى أن جاءت لحظة المصارحة فأعلن الغرب عداءه للدين، كان ذلك بعد الثورة الفرنسية تحديدًا، والتي كان عداء الدين نتيجةً لها لا سببًا لها، كما أقر بذلك مؤرخها دو توكفيل. هكذا عاد الغرب بعد الثورة الفرنسية إلى منطق الأحادية، لكن هذه المرة ليست أحادية دينية كما كانت في القرون الوسطى، بل أحادية عقلية صرفة. 

وبعد الثورة الفرنسية _ بداية عصر الحداثة_ وجد العقل الغربي نفسه ضائقًا بوجود الدين، فلم يعد يقبل حتى بحالة الانفصال، بل أراد أن يطرد الدين تمامًا من دائرة المرجعيات ليصبح العقلُ بعد ذلك سيد الموقف في المشهد الغربي بلا منازع.

لكن بعد أن ساد العقل تورّط الغرب بسؤال كبير: ما مرجعيّة العقل؟

لأن العقل مرجعية فردية وليس مرجعية جماعية، فالفرد يمكن أن يقول عقلي مرجعي، لكن على مستوى الجماعة العقول تتعارض، فأي عقلٍ سيكون المرجعية؟ هنا اضطر الغرب إلى تبني فكرة "الأغلبية"، فما تراه الأغلبية يكون هو الفيصل، وهذا ما قاد الغرب إلى أن يتبنى "الديمقراطية" التي لا يوجد في سوق الأنظمة السياسية من يعترف بمرجعية الأغلبية سواها، وهكذا بُعثت الديمقراطية من مرقدها بعد سبات دام أكثر من ألفي عام.

لكن هناك مشكلة، ماذا لو تبنت الأغلبية ما يضر الأقلية؟ هنا أدرك الغرب أن الديمقراطية وحدها لا تكفي؛ لأن الديمقراطية معنية بحق الأغلبية لا الأقلية، ولا يحتاج الأمر إلى تنظير، فقد رأى الغرب بعينيه آثار ذلك في الحرب العالمية الثانية وصعود الأيدلوجيات الشمولية التي سحقت الأقليات على وجهٍ لا نظير له، فصارت التجربة الواقعية دليلاً مقنعًا أن الديمقراطية وحدها لا تكفي.

هنا تذكر الغرب صوتًا لطالما كان يناديه لكنه ظلَّ متجاهلاً له، الصوت الذي رفعه جون لوك في القرن السابع عشر، ثم ارتفع أكثر وأكثر مع جون ستيورات ميل في القرن التاسع عشر، كان ذلك الصوت هو صوت الليبرالية.

الليبرالية معتقدٌ ينطلق من مبدأ الحرية الفردية، وأهمية حمايتها أمام تغوّل أغلبية المجتمع، يقول جون ستيورات ميل إنه يجب "في كل الأحوال أن يُترك الفرد بحريته الكاملة _الاجتماعية والقانونية_ لأن يفعل ما يريد وأن يتحمّل نتائجه".[1]

وإذا كانت الليبرالية تسعى لحماية الأقلية من طغيان الأغلبية، فهذا تحديدًا ما كان يحتاجه الغرب لسد ثغرة ديمقراطيته، فإذا كانت الديمقراطية تعطي الأغلبية حقها في "السلطة"، فإن الليبرالية تعطي الأقلية حقها في "الاختلاف"، هكذا أقنعت الليبرالية الوعي الغربي بأنها المنقذ الوحيد من جموح الديمقراطية ومخالبها، وبذلك ظنَّ الغرب أنه أوجد الحل النهائي للبشرية، وأذّن فوكوياما في الناس بأن التاريخ قد انتهى.

لكن الحقيقة أن التاريخ لم ينته كما استعجل فوكوياما في فتواه، بل للتو فُتِحَت أبوابه على حقبة ستربك العالم كله، ذلك أن الليبرالية تعني التعويل على الحرية كمرجعية عليا، والحرية لا يمكن أن تكون مرجعية حاسمة، هي مرجعية سائلة لا يمكن الإمساك بها والبناء عليها؛ لأنها لا تتضمن في ذاتها أي معيار أخلاقي، ولا توجد مرجعية بلا معيار أخلاقي. فمهما أوجدنا من تعريفات للحرية فإن تلك التعريفات لن تحسم الجدل حولها، وستبقى أبدًا في حاجة إلى مرجعية أعلى منها تحسم أمرها.

فلو عرّفنا الحرية بأنها "عدم تجاوز حدود الآخرين"، فالسؤال ومن الذي يحدد تلك الحدود؟ نحن أم الآخرون؟ فمثلاً من ينتقد الإسلام ويرسم صورًا مسيئة هو يرى أنه يمارس حريته، في حين المسلمون يرون أنه يتجاوز حدود حريته، فما المعيار؟

ولو عرّفنا الحرية بأنها "فعل ما لا يضر الآخرين"، فالسؤال هنا: ومن الذي يحدد إذا كان الفعل ضارًا أو غير ضار؟ ربما أراه ليس ضارًا ويراه الآخرون ضارًا، فالشذوذ الجنسي يراه كثيرون ضارًا بمستويات مختلفة، في حين لا يراه أنصاره كذلك.

ولو عرفنا الحرية بأنها فعل ما تبيحه القوانين (كتعريف مونتسكيو)، فالسؤال هنا: ومن الذي يحدد طبيعة تلك القوانين؟

ولو قلت إن الحرية المقبولة هي الحرية المنضبطة، فالسؤال: من يحدد انضباطها؟

ولو قلت الحرية المقبولة هي الحرية النافعة، فالسؤال: من يحدد كونها نافعة؟

اذهب كلَّ مذهب في تعريف الحرية، ففي النهاية ستجد أن أي تعريف للحرية لا يحسم نزاعًا ولا يرفع خلافًا، ما لم يرتبط بمرجعية تضبطه، والفخ الذي وقع فيه الغرب أنه لم يأخذ الحرية ويضعها ضمن مرجعية أخلاقية، بل جعلها هي نفسها مرجعية، ولذلك يقف الغرب اليوم عاجزًا عن إيقاف الانحدار الأخلاقي المتسارع، فكلما ظهر ظاهرون بسلوك أخلاقي مشين تصدّت لهم الأغلبية بأن ذلك غير لائق أو غير أخلاقي، فيرد عليهم أولئك: هذه حريتنا ويحق لنا أن نفعل ما نشاء.

وأذكر أني شاهدت مقطعًا لامرأة أمريكية أوقفت رجلاً مع طفلته التي ترتدي ملابس وردية، وسألته: لماذا ترتدي طفلتك ملابس وردية؟ فقال لها: لأنها أنثى. قالت له: ليس من حقك أن تحدد جنسها الآن، يجب أن تجعلها ترتدي ملابس محايدة حتى تكبر وتقرر بنفسها ماذا تريد.

لم يكن بوسع هذا الرجل إلا أن قال للمرأة: أنتِ مجنونة.

هذا الرد هو المآل المتوقع للإنسان الغربي، إذ ماذا يمكنه أن يجيبها غير ذلك؟ فهي تحتج عليه بالحرية، وبموجب الحرية يجب أن يترك الطفلة حرة تقرر مصيرها، هذا ما تقتضيه الحرية حين تكون هي المرجعية العليا.

هكذا يكتشف الغرب أن الحرية التي جاءت لحماية الأقليات من الأغلبية قد قلبت الطاولة على الأغلبية نفسها، فأمست الأقليات تستغل الحرية لتدمير أخلاقيات الأغلبية. ويزداد الأمر سوءًا حين تكون الأقلية ذات مكنة في الإعلام والأموال، كما هو واقع في عصرنا الحالي، حينها يسهل على الأقليات إرهاب الأغلبية بأدوات مختلفة، ولذلك نجد مؤيدي الانحرافات الجنسية أقلية، لكنهم مع ذلك فرضوا موقفهم على الأغلبية، فترى كثيرًا من الغربيين يرفض الشذوذ وتحويل جنس الأطفال لكن يخشى من الاعتراض، حتى الأكاديميين الغربين يخشون نقد ما يجري من انحرافات غربية خوفًا من ردود الأفعال.

هكذا نجد أن المشكلة بدأت حين ضخّم الغرب الحرية ونقلها من قيمة إلى مرجعية؛ لأن الحرية حين تكون مرجعية فإنها تفتح الباب لكل الرغبات المجنونة، فمن البداهة أن الناس تتوسع في رغباتها كلما حققت شيئًا منها، ولما كانت الرغبات بلا مرجعية أخلاقية تضبطها فإن النتيجة أن الرغبات نفسها تكون هي المرجعية، وهكذا لا تكون الحرية الليبرالية سوى وسيلة لتضخيم الرغبات وهيمنتها على الإنسان، وهو ما يفسّر الانحدار الأخلاقي المتسارع في الحالة الغربية المعاصرة.

قبل مئتي سنة حاول جون ستيورات ميل _ المنظّر الأشهر للليبرالية_ أن يعالج جموح الحرية حتى لا تصل إلى ما وصلت إليه اليوم، وذلك من خلال ربط الحرية بمرجعيتي "العقل" و "الفطرة السليمة".[2] هكذا كان ستيورات ميل يظن أنه أوجد صمام أمان للحرية. لكنه لم يكن يدري أن العقل كائن ضعيف حين يتخلى عن دعم المرجعية الأخلاقية، ولذلك حين يُترك العقل وحده كمرجعية فإن الرغبة تنتصر عليه بسهولة، وهذا منطقي؛ لأن العقل والفطرة السليمة مفاهيم ذهنية لا تنطق بذاتها، ولذلك تتجاذبها عقول الناس المختلفة.

بمعنى آخر: نقطة ضعف العقل الأساسية أنه لا يوجد متحدث رسمي باسمه، ولذلك كل شخص يستطيع أن يدعي أن ما يفعله هو عين العقل، ولو كان ما يفعله مجرد رغبات مجنونة، ولذلك حين نحيل إلى العقل وحده فنحن نحيل إلى مرجعية زئبقية لا يمكن أن يُبنى عليها، ولذلك كان غوستاف لوبون دقيقًا حين قال: "لا أعلم منذ بدء العالم أن أي تمدن أو أي نظام أو أي معتقد وُفّق للبقاء مستندًا إلى مبادئ ليس لها غير قيمة نسبية".[3]

إذن الفخ الأكبر الذي وقع فيه الغرب أنه جعل الحرية مرجعية للقيم، وليست قيمةً ضمن مرجعيةٍ ما؛ ولأن الحرية لا تملك موقفًا أخلاقيًا يحكمها، فقد أصبح كل إنسان حرًا في أن يوقف الحرية عند الحدود التي يرغبها، ولأن رغبات الناس لا تنتهي فإن مفاجآت الغربي في الانحدار الأخلاقي لن تنتهي كذلك. 

السقوط الغربي لم يكن مصادفة

من المهم أن ندرس الظواهر الإنسانية من جذورها لا نتائجها، حتى لا نستهجن النتائج ثم نكتشف أننا نسير على المقدمات الموصلة إليها. وظاهرة الانحدار الأخلاقي في الغرب هي نتيجة لمقدمات لا يمكن تجاهلها، إذ لم يكن السقوط الأخلاقي الغربي حدثًا مفاجئًا، وإنما هو نتاج سلسلة من المقدمات التي قادت الغرب تدريجيًا إلى هذه النتيجة، وهي أربع مقدمات أساسية:

المقدمة الأولى: فك العلاقة مع الدين

ذكرنا أن الغرب مرَّ بتحولات عديدة في علاقته مع الدين إلى أن انتهى بعد الثورة الفرنسية إلى فك العلاقة مع الدين، وترسّخ هذا الأمر أكثر بعد انتصار الأيدلوجيا الليبرالية في الحرب العالمية الثانية، فأصبح الإنسان الغربي يعيش علاقة أحادية مع نفسه فقط، إما لأنه لم يعد يؤمن بوجود الله أو يؤمن به لكنه لا يؤمن بجديّة الأديان، وفي كلتا الحالتين يكون الإنسان منقطع العلاقة مع أي مرجعية متعالية عنه، ويصبح سيّد نفسه، وهذا ما أدى إلى المقدمة الثانية.

المقدمة الثانية: العقلانية

بعد أن فك الإنسان الغربي علاقته بالدين كان من المنطقي أن يصل إلى فكرة العقلانية Rationalism كبديل عن المرجعية المتعالية. والعقلانية تستند إلى أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة والقيم، فالمرجعية كامنة في الإنسان نفسه. (فالعقل في العقلانية ليس مرجعية أساسية، بل مرجعية وحيدة، وبذلك يفترق مذهب العقلانية عن الإسلام الذي يرى العقل مرجعية معتبرة، لكنه ليس المرجعية الوحيدة).

ويترتب على العقلانية أن كل إنسان لديه عقله الذي يمنحه القدرة على معرفة ما هو صواب وما هو خطأ، وليس بحاجة إلى توجيه وإرشاد من جهة خارجية. وهذا أدى بدوره إلى رفض فكرة إنكار الخطأ عند الآخرين، فبأي حق تنكر عليه إذا كان عقله يراه صوابًا؟ ولا أريد أن أتدرج بالأمثلة على ذلك، بل سأذكر أسوأ الأمثلة، وهو ظاهرة اختيار الإنسان أن يكون كلبًا، فلم يكن لمثل هذه الظاهرة أن تكون موجودة لولا الإيمان بفكرة أن كل إنسان عاقل لا يحتاج إلى موجه خارجي يرشده، وهو وحده من يقرر ما هو صح وما هو خطأ، ولما كان الإنسان كذلك لم يكن منطقيًا التدخل في شأنه ومنعه من أن يكون كلبًا!

ونتج عن مبدأ العقلانية فكرة "نسبية الحقيقة"، فإذا كان المصدر المعرفي والأخلاقي هو العقل وحده، وإذا كان لكل إنسان عقله الخاص، فالنتيجة أنه لا توجد حقيقة مطلقة؛ لأن ما تراه حقيقة بناء على عقلك، فإن الآخر يراه حقًا بناء على عقله، ولذلك الحقيقة نسبية. ولذلك تجد اليوم من يقول إنه أنثى مع كونه رجلاً، ويطالبك بأن تقر له بأنه كلب أو أي حيوان آخر، فلا يكفي اليوم أن تتركه حرًا في ادعائه بأنه كلب أو حمار، هذه مرحلة تجاوزها الإنسان الغربي، هو يريد أن ينتزع منك اعترافًا بأنه كذلك.

ثم لو قلت له: لكنك لست كلبًا.

هنا ستكتشف أن رأيك غير مهم؛ لأن ما هو حقيقة لك ليس حقيقة لهم، فالحقيقة نسبية، وتاليًا يجب أن تقر له بذلك وتعامله بناء على ما يراه حقًا، ولذلك هو يريد أن يفصّل الحقيقة على مقاسه، لا أن تكون متجاوزة له.

المقدمة الثالثة: الفردانية

بعد تينك المقدمتين من الطبيعي أن يصل الإنسان الغربي إلى الفردانية Individualism، والفردانية تعني في حدها الأدنى تمحور الفرد حول مصالح ذاته،[4] أو هي "الإنكار لأي مبدأ أعلى من الفردية" على حد تعبير الفرنسي رينيه غينون،[5] والذي يرى "أن الفردانية هي السبب الحاسم للانحطاط الراهن للغرب".[6]

ونتيجةً للفردانية أصبح الإنسان معنيًا بمصالحه الخاصة، دون أي مبالاة بالصالح العام، ولذلك لا يعنيه أن يعترف لذكر بأنه أنثى أو يعترف له بأنه حيوان أو أي خلق آخر، لا يعنيه ذلك لأنه لا يضر بمصالحه الخاصة المباشرة. هكذا جعل المنطق الفرداني الإنسان لا ينظر إلى ما هو أبعد من قدميه، فالمهم ألا يقتربوا من دائرته الخاصة، ثم بعد ذلك ليفعلوا ما يشاءون.

المقدمة الرابعة: التصالح مع النفس

تعني فكرة المصالحة مع النفس أن الإنسان يجب أن يتصالح مع نفسه مهما كان فيها من أخطاء وعيوب، فليس مضطرًا لإصلاح عيوبه وأخطائه، بل عليه أن يتقبّل نفسه كما هي، ولذلك تجدهم يرددون عبارات مثل: "كن كما أنت" أو "تقبل نفسك كما هي". وهذا المنطق أدى إلى تلاشي فكرة تزكية النفس، فإذا كان الإنسان المعاصر يريد أن يتقبل نفسه كما هي، فلن يسعى بعد ذلك إلى تزكيتها وتطهيرها من الأخطاء والعيوب، بل سيفعل كل ما تحثه عليه رغباته، وهكذا يكون شعار "المصالحة مع النفس" إعلانًا صريحًا بالاستسلام لرغبات النفس الإنسانية، وسعيًا لإضفاء المشروعية على كل الرغبات الإنسانية الخاطئة، وهو ما يقود إلى حالة من موت الضمير.

وهذه مقدمة متوقعة بعد المقدمات السابقة، فإذا كان الإنسان المعاصر يريد أن يفعل ما يشاء بلا مرجعية أخلاقية متعالية، ولا انتقاد وتوجيه من الناس بحجة العقلانية ونسبية الحقيقة، فإنه سيبقى بعد ذلك متورطًا بصوت ضميره الداخلي، ماذا يفعل به؟ هنا يأتي حل "المصالحة مع النفس" كضربة قاضية لإزالة آخر العقبات في طريق الانفلات الأخلاقي وانفجار الرغبات.

هذه هي المقدمات التي أوصلت الغرب إلى النتيجة التي نراها اليوم، وكل مقدمة تجر أختها لتصل في نهاية المطاف إلى فكرة إماتة الضمير، وما ظنك في الإنسان بعد أن تجتمع فيه الحرية وموت الضمير؟

مشكلة عدم اعتراف الغرب بالمشكلة

على رغم وضوح الخطأ الذي وقع فيه الغرب وتسبب في انحداره، فإن الغرب إلى الآن لا يريد الاعتراف بهذا الخطأ، فقد قرأت وسمعت لكثير من الغربيين الذين يصرحون بأن الغرب في حالة انحدار متسارع، لكن الذي لم أجد أحدًا يتحدث عنه هو: لماذا الغرب ينحدر بهذه السرعة؟

 بالنسبة لنا السبب واضح، وهو أن الغرب تخلَّى عن "مرجعية أخلاقية متعالية" منذ الثورة الفرنسية، وأصبح يستمد أخلاقه من ذاته، ولما كان الإنسان يميل إلى توسيع رغباته فإن الغرب مستمر في توسيع رغباته ما دامت لا توجد حدود أخلاقية تضبطه، هكذا الأمر بكل وضوح.

وحين نقول مرجعية أخلاقية "متعالية" فإن كلمة "متعالية" قيد مهم؛ لأن المقصود بالتعالي التعالي على أهواء الناس وأمزجتهم، إذ الغرب يؤمن بأنه يمتلك مرجعية أخلاقية، ويؤمن أن ما يفعله اليوم هو أخلاقي، لكن أخلاق يفصّلها على مقاس رغباته، ولذلك لا فائدة من مرجعية أخلاقية غير متعالية. وهذا المعنى التقطه بكل براعة ابن حزم الظاهري قبل ألف عام حين قال: "ولا يمكن ألبتة إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة ‌دون ‌النبوة، إذ طاعة غير الخالق عز وجل لا تلزم، وأهل العقول مختلفون في تصويب هذه الأخلاق".

 

لكن من الصعب أن يصل الغرب إلى هذه النتيجة؛ لأنه إن وصل إليها فهذا يعني أنه سيعترف بخطأ مساره التاريخي منذ الثورة الفرنسية، فهو قد قرر رفض المرجعية الدينية تمامًا، وهذا الرفض كان رفضًا متهورًا وعشوائيًا؛ لأن الانحراف الذي حصل في السلطة الدينية في أوروبا كان ينبغي أن يُصحح لا أن يُلغى، كان على الغرب أن يبقي الدين ويستثمره كهوية جامعة ومرجعية أخلاقية، لكن الغرب اختار أسهل الحلول، وهو الرفض الابتذالي.

واليوم حين تخلى الغرب عن المرجعية الأخلاقية أصبح متورطًا في كيفية ضبط حدود حريته، فكلما وصل إلى مستوى خرج له من يريده أن يتسع أكثر، وهكذا سيبقى في انحدار إلى أن تأتي اللحظة التي يكتشف فيها الغرب الخطأ التاريخي الذي وقع فيه، ويمتلك الجرأة الكافية لإعادة مساءلة قراره التاريخي بإلغاء اعتبار الدين.

إن الغرب يدفع ضريبة أنه لم يخرج له مارتن لوثر جديد بعد الثورة الفرنسية، فلو كان هناك مثل مارتن لوثر لاختار الغرب مسارًا تصحيحيًا بدل المسار الراديكالي في معاملة الدين، والذي نشأ عنه مرجعية أحادية تقتصر على العقل وحده. وهذا خلاف التصور الإسلامي، فالإسلام يؤمن بالمرجعية المتكاملة، مرجعية تستند إلى ثلاثية: الدين والعقل والعلم، فالدين في الإسلام لا يأتي بديلاً عن العقل أو العلم، وإنما مكمّل لهما؛ لأن العلم يخبرك كيف تصنع، لكنه لا يخبرك كيف تتعامل مع ما تصنع، وهنا يأتي دور الدين كموجه أخلاقي للفعل الإنساني، والعقل هو الآخر لا يستطيع أن يستقل عن الدين؛ لأنه نسبي يختلف فيه الناس، ولذلك يحتاج إلى مرجعية أعلى منه تضبطه حال الاختلاف، وهكذا الدين يتكامل مع العلم والعقل ولا يزاحمهما. لكن الغرب حين جمح الدين عن مساره لم يختر إعادته إليه، بل ألغى المسار تمامًا.

وربما يقول شخص: لكن وجود مرجعية أخلاقية متعالية لا ينهي الخلاف، فالمجتمعات ذات المرجعية الأخلاقية تختلف كذلك في تصوراتها. أقول هذا صحيح، لكن وجود مرجعية أخلاقية يضمن على الأقل وجود حد أدنى متفق عليه لا يمكن تجاوزه، إذ المرجعية الأخلاقية لا بد من تضمنها قواطع أخلاقية، وإلا ما كانت مرجعية. لذلك صحيح أنَّ وجود المرجعية الأخلاقية المتعالية لا ينهي الخلاف، لكن على الأقل يضع له بوصلة، والإشكال في الحالة الغربية المعاصرة أنها لم تعد تمتلك أي بوصلة.

هل سيقع المسلمون في الفخ نفسه؟

من حيث المبدأ لا ينبغي أن يقع المسلمون في الفخ الغربي؛ لأن الإسلام لا يرى الحرية مرجعية، وإنما قيمة ضمن مرجعية، فالإسلام يقر الحرية، بل يوجبها، ولأجل ذلك فهو يرفض الإكراه على الدين {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}، لكنه في الوقت نفسه يرى أن الحرية وسيلة لا غاية، وسيلة لتحقيق العدل في الاجتماع الإنساني {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان بالحق ليقوم الناس بالقسط}.

وهذا هو الفارق بين الحرية الإسلامية والحرية الليبرالية، فالحرية في التصور الليبرالي غاية بحد ذاتها، ولذلك تتهاوى أمامها كل القيم الأخرى؛ ولأن الحرية الليبرالية غاية بحد ذاتها، فهي إذن تفكيكية لا تركيبية، تفكك كل العوائق وتسعى لإزالتها لتفتح أمامك كل الطرق، لكنها لا تخبرك أيَّ هذه الطرق يجب أن تسلك؛ لأنها تفترض في الإنسان العقلانية المطلقة. في حين الحرية في الإسلام مفهوم إيجابي، فهي إزالة المعوقات مع الإرشاد لسبل الخير، وهذا يعني أن الحرية الليبرالية هي "حرية من Freedom from" في حين الحرية في الإسلام "حرية لأجل Freedom for"، وما أعظمَ الفارق بين الحريتين.

إذن الحرية في الإسلام مقيّدة بمرجعية أخلاقية أعلى منها، وهي مرجعية الوحي الإلهي، ولذلك هناك حدود أخلاقية واضحة لا يستطيع المجتمع المسلم تجاوزها.

لكن هذا من حيث المبدأ، أما من حيث الواقع فللأسف أننا نرى اليوم من يسعى لتدمير هذه المرجعية بحجة "الحرية" حتى يسهل تفكيك المجتمعات المسلمة وتوريطها بمثل ما تورطت المجتمعات الغربية، فأمسينا نرى كثيرًا من المسلمين ينادون بأن تكون للحرية المرجعية العليا، ويرفضون أي تدخل أخلاقي، فكلما أنكرت خطأ في المجتمع قالوا لك: الناس أحرار يفعلون ما يشاءون. وهذا هو المنطق نفسه الذي ساق المجتمعات الغربية إلى الحالة التي وصلت إليها اليوم. ولذلك ما يحصل في الغرب اليوم يجب أن يوقظ المثقفين المسلمين الذين أسكرتهم الحرية فجعلوها القيمة العليا، ولم يعلموا أن هذا الرأي هو الخطوة الأولى للدخول في نفس المسار الذي قاد الغرب إلى حالته المعاصرة.

الخلاصة أن من يريد أن يعرف إن كانت المجتمعات المسلمة ستقع في فخ الانحدار الأخلاقي الغربي عليه أن يسأل: هل وقع المسلمون في أيٍ من المقدمات الأربع التي ذكرناها سابقًا؟

للأسف أننا نجد لهذه المقدمات حضورًا في مجتمعاتنا، فأصبحنا نرى من يرفض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحجة أن الناس أحرار، وبحجة "كلٌ أدرى بنفسه"، وهذه عبارة تعبر عن فكرة العقلانية، وأصبحنا نرى من يرفض انتقاد الآخرين ما داموا لم يضروه بشيء، وهذا عين الفكر الفرداني الذي تحدثنا عنه.

لذلك إذا كنا نريد فعلاً ألا نصل إلى ما وصل إليه الغرب اليوم، فعلينا أن نكافح بقوة كل مظاهر المقدمات الأربع التي تحدثنا عنها، فلم يصل الغرب إلى حالته هاته إلا بعد أن تسرّبت له تلك المقدمات واستقرت في وعيه، أما أن نترك مظاهر هذه المقدمات دون مقاومة فهذا يعني أن كل ما نراه في الغرب سنراه في مجتمعاتنا كذلك، المسألة مسألة وقت فقط. 

 

[1]  أسس الليبرالية السياسية، ص208.

[2]  ستيورات ميل، أسس الحرية الليبرالية، ص131.

[3]  المرجع السابق، المكان نفسه.

[4]  الفردانية في الأصل تعود إلى فكرة الأنانية في السياق الاجتماعي، يقول توكفيل: "الفردانية كلمة حديثة خلقتها فكرة جديدة، آباؤنا لم يعرفوا إلا كلمة الأنانية". وتحدث كثير من الفلاسفة عن فكرة الفردانية الليبرالية، ويمكن الرجوع إلى مبحث "المرض الحديث للفردانية" في كتاب "ما الليبرالية" لكاترين أودار. ابتداءً من صفحة 44، فقد لخصت كاترين آراء كثيرين في هذا الشأن.

[5]  غينون، أزمة العلم الحديث، ترجمة عدنان نجيب الدين {النجف، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، ط1، 2016) ص77

[6]   المرجع السابق، المكان نفسه.

التعليقات

يوجد 3 من التعليقات

يوسف حامد

2023-08-08 20:23:59

بارك الله فيك ونفع بك.

نورة حمد الهاجري

2023-08-10 12:19:40

مقالة مهمة وماتعة، مع توقفي عند المقدمة الرابعة : التصالح مع الذات، لم أستوعبها. مع ظني أن المقدمة المناسبة هنا هي تنامي القصص الصغرى، كل فرد له فهمه وحقيقته ومعياره - إن كان - وعالمه. بالتالي لا مجموع بل أفراد، ولاكل بل اجزاء. فإذا وصلنا لمرحلة لا مدلول لدال، وحل الجزء مكان الكل، والنسبية مكان المطلق، أعتقد هنا لكل إنسان - هناك - معناه الخاص وقصته الخاصة، فهو يفهم العالم بطريقته، ويشكلها بطريقته، ويصنع عالمه، ليصل ليكون إله نفسه. هذه المقالة -في اعتقادي- تكملها مشاهدة مقاطع للدكتور المسيري - رحمه الله - وهي: 1- التيارات الفكرية المعاصرة وآثارها على الشرق المسلم. 2-الرؤية الجنسية في الحضارة الغربية.

أبو يحيى

2023-11-25 02:51:03

مقالة شيقة و ممتعة بارك الله فيك و جزاك خيرا