ما حقيقة موقف الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم من التورق؟
اسم الكاتب : د.نايف بن نهار
المشاهدات : 6048
نريد في هذه المقالة توضيح موقف الإمام أحمد وتقي الدين ابن تيمية وشمس الدين ابن القيم من قضية التورق الذي يعدُّ أكثر القضايا إثارةً للإشكال في عالم الصيرفة الإسلامية، ويبدو أن المصارف الإسلامية سوف تجعله الأداة التمويلية الوحيدة في تمويلها للعملاء، إن لم تكن قد فعلت فعلاً.
أولاً: الإمام أحمد
حكى أصحاب الإمام أحمد راويةً عن الإمام أحمد بكراهة صورة التورق، مع تصريحهم بأنَّ معتمدَ المذهب _ بل حكوا الاتفاق_ إباحةُ التورق، يقول تقيُّ الدين ابن تيمية: "لو كان مقصودُ المشتري الدراهمَ وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها؛ ويأخذ ثمنها، فهذا يسمي التورق وفي كراهته عن أحمد روايتان"[1] وقال شمس الدين ابن مفلح: " ولو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائتين فلا بأس، نص عليه، وهي التورق. وعنه: يكره".[2] وكذلك قال المرداوي، لكنه زاد روايةَ الحرمة، حيث قال: "لو احتاج إلى نقد، فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين. فلا بأس. نص عليه. وهو المذهب. وعليه الأصحاب. وهي مسألة التورق. وعنه يكره. وعنه يحرم".[3]
ونصُّ الإمام أحمد أورده أبو داود في مسائله، حيث قال: "سمعت أحمد سئل عن الرجل يبيع المتاع فيجيئه الرجل يطلب المتاع ينسؤه، فيقول: " أبيعك بده شازده وده داوزده؟ فلا يعجبنا أن يكون بيعه هذا، هذا في العينة، قلت: يقال لها: عينة، وإن لم يرجع إليه؟ قال: نعم، سمعت أحمد قال: وإن كان لا يريد بيع المتاع الذي يشتري منك، فهو أهون، وإن كان يريد بيعه فهي العينة"[4]
هذه هي الرواية التي استند إليها بعض فقهاء الحنابلة في كراهة الإمام أحمد للتورق، لكن هذه الرواية _بحسب ما يراه الباحث_ غامضةٌ، وفي معناها إشكال، فالإمام أحمد بحسب ظاهر الرواية يمنع مطلق إرادة بيع السلعة، سواء أكانت لنفس البائع الأصلي أم لغيره، كما أن الرواية التي قبلها_ التي كانت باللغة الفارسية_ هي كذلك غيرُ واضحة، حيث إنها تحتوي على أربع كلمات فارسية:
بده: وهي تحتمل معنيين: الأول: أعطي، لكن هذا المعنى لا يستقيم لوجود فعل أبيعك قبله. الثاني: رقم عشرة.
شازده[5]: وهي تدل على الرقم ستة عشر.
وده: الواو حرف عطف، وأما ده: فتدل على الرقم عشرة.
داوزده: تدل على الرقم اثني عشر.
فلو أردنا ترجمة العبارة إلى اللغة العربية فإنها ستكون على أحد احتمالين:
أ- أبيعك أعطيك ستة عشر وعشرة واثني عشر.
ب- أبيعك بعشرة ستة عشر وعشرة واثنا عشر.
ومن الجلي أن المعنى في كلتا العبارتين غيرُ واضحٍ، هذا إذا اعتمدنا على النص كما هو مكتوب، لكن ممكن أن يتم تفسير العبارة الثانية بأن المراد بها: أبيعك ما هو بعشرة بستة عشر، وما هو بعشرة باثني عشر.
هذا هو التفسير الوحيد الذي _بحسب رأي الباحث_ يمكن حمل رواية الإمام أحمد عليه، وإلا فإن المعنى سيكون غير واضح، وليس بالاستطاعة التعويل عليه، كما أن هذا التفسير يؤيده ويؤكده سياقُ الرواية، حيث إن الرواية تتحدث عن بيع العينة، ومعلوم أن بيع العينة يقتضي شراء السلعة بغير السعر الحقيقي. علاوةً على أن هذا التفسير يجعل عبارة الإمام أحمد لا تستقيم،[6] إذ لو أخذنا بعمومها فإن ذلك يعني أن الإمام أحمد يُحرِّم كلَّ أعمال التجارة، فلا يجوز للمرء أن يشتري ليبيع السلعة ولو ليربح فيها كما هو صنيع التجار، وهذا ظاهرٌ بطلانُهُ.
وقد وجد الباحث كلاماً للإمام أحمد في تفسير العينة يزيل الإشكال السابق، ويؤيد التفسير الذي سبق ذكره، حيث يقول الإمام أحمد "العينة أن يكون عند الرجل المتاع، فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باعه بنقد ونسيئة فلا بأس". وقال كذلك :" أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد".[7]
فالعينة إذن عند الإمام أحمد _ على الأقل في هذه الرواية_ لا تُطلق على عمليَّة معينة، وإنما تُطلقُ على طبيعة النشاط التجاري المختار، فإذا كانت هناك عملية بيع آجل واحدة فهي لا تسمى عينةً عند الإمام أحمد، وأما إذا كانت طبيعة العمل التجاري للإنسان تقوم على بيع الآجل فهذه إحدى صور العينة عند الإمام أحمد.[8]وقد نصَّ ابن قدامة المقدسي على أنَّه ليس مراد الإمام أحمد النهي عن بيع النسيئة مطلقاً؛ فإنَّ "البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقا"[9] ولكن البيع بالنسيئة "لا يكره إلا أن لا يكون له_أي البائع_ تجارة غيره".[10]
إذن الخلاصة في رأي الإمام أحمد أنه لا يرى كراهة التورق ذاته، أي باعتباره عملية تجارية تحتوي على تأجيل الثمن، وإنما كراهته محلُّها تحديداً في حق التاجر الذي لا يبيع السلع إلا نسيئةً، وهذا أعم من التورق، فهو بذلك يشمل حتى بيوع المرابحة والإجارة وغيرهما وليس التورق فحسب،[11] أما إذا كان التاجر ينوّع في بيوعه، تارةً نقداً وتارةً نسيئة، فإنه نشاطه التجاري هذا ليس مكروهاً بنصِّ الإمام أحمد نفسه، حيث قال: " فإن باعه بنقد ونسيئة فلا بأس".[12]
وهذه الخلاصة التي توصَّل إليها الباحث_وهي أن الإمام أحمد لا يكره التورق ذاته وإنما النشاط التجاري المعوِّل تماماً على بيع النسيئة_ تعارض ما قرره فقهاء الحنابلة _كابن مفلح والمرداوي ومن جاء بعدهما_ من إطلاقهم القول إنَّ الإمام أحمد يرى كراهية التورق.
ثانياً: تقي الدين ابن تيمية
عندما يُتناول رأي الإمام ابن تيمية عموماً فإنه يُنقل من طريقين:
الطريق الأول: نقلُ رأيه من مصنّفاته نفسها.
الطريق الثاني: نقلُ رأيه عبر تلاميذه ومن أبرزهم شمس الدين ابن القيم وشمس الدين ابن مفلح والحافظ ابن كثير.
أما من خلال الطريق الأولى فابن تيمية ينص بصراحة على أنه يرى كراهية التورق، ولنترك ابن تيمية يعبر عن نفسه حيث يقول: " إذا كان مقصود المشتري الدراهم وغرضه أن يشتري السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذه تسمى " مسألة التورق " لأن غرضه الورق لا السلعة، وقد اختلف العلماء في كراهته فكرهه عمر بن عبد العزيز وطائفة من أهل المدينة: من المالكية وغيرهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ورخص فيه آخرون، والأقوى كراهته".[13]
ويقول في موطن آخر: "إن كان المشتري محتاجًا إلى الدراهم فاشتراها ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى "التورق" وإن كان المشتري غرضه أخذ الورق فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء كما قال عمر بن عبد العزيز: التورق أخية الربا".[14]
إذن هنا نجد في هذين النصين أنَّ ابن تيمية ينص صراحةً على أن التورق مكروه، ولو لم يكن لابن تيمية سوى هذين النصين لكان متعينًا أن يُعزى إليه القول بكراهة التورق كراهة تنزيه؛ لأنه أدرك التقسيم الأصولي للأحكام التكليفية، ومع ذلك فإن ابن تيمية عبّر بالكراهة وهو يريد بذلك كراهة التحريم، كما بيّن ذلك في نصوصه الأخرى، ومنها قوله: "فهذه تسمى (التورق)؛ لأن المشتري ليس غرضه في التجارة ولا في البيع ولكن يحتاج إلى دراهم فيأخذ مائة ويبقى عليه مائة وعشرون مثلا. فهذا قد تنازع فيه السلف والعلماء. والأقوى أيضا أنه منهي عنه كما قال عمر بن عبد العزيز ما معناه: أن التورق أصل الربا؛ فإن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج وأكل ماله بالباطل وهذا المعنى موجود في هذه الصورة وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".[15]
فابن تيمية ينص هنا بوضوح على أنه يوافق عمر بن عبد العزيز بأن التورق أصل الربا، ومعلوم أن الربا محرّم، وأصلُ المحرّم محرمٌ، كما أنه ينص على أن المعنى الذي لأجله حرّم الربا موجود في التورق، وهذا يقتضي حرمة التورق.
وما قرره ابن تيمية هو ما نقله عن تلاميذه، كابن قيم الجوزية حيث قال: " وكان شيخنا - رحمه الله - يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مرارا وأنا حاضر، فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه".[16] وكذلك نقله شمس الدين ابن مفلح حيث قال:" ولو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائتين فلا بأس، نص عليه، وهي التورق، وعنه: يكره, وحرَّمه شيخُنا".[17]
إذن الخلاصة أن تقي الدين ابن تيمية _رحمه الله_ يرى أن التورّق محرم، فالمرء إذا اشترى سلعة بهدف بيعها والحصول على نقد فإنَّ ذلك محرَّمٌ.
ثالثًا: شمس الدين ابن قيم الجوزية
شمس الدين ابن القيم بيّن بوضوح رأيه في التورق، حيث ذهب إلى أنه محرّم، وإلى أنه نوع من الربا، حيث يقول: "إن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليها الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما أحب، وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا، والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون، وأخفها التورق".[18]
ذكر ابن القيم في هذا النص ثلاث صور، وهي:
الصورة الأولى: أن يُرجع المشتري السلعة للبائع، وهذه العينة.
الصورة الثانية: أن يبيع المشتري السلعة لطرفٍ آخر بحيث لا تعود السلعة إلى البائع الأول، وهذه مسألة التورق.
الصورة الثالثة: أن يبيع المشتري السلعة لطرف ثالث، ثم يبيع الطرف الثالث السلعة إلى البائع الأول، وهو المسمى محلل الربا.
هذه الصور الثلاث كلها محرمة عند ابن القيم، بدليل أنه ذكر في نهاية الفقرة أن هذه الصور الثلاث "يعتمدها المرابون"، ومعلومٌ أن صناعة الربا محرَّمة.
والغريب أن أستاذنا علي القره داغي فهِم من النص السابق أنَّ ابن القيم يرى جواز التورق إنْ كان المشتري يبيع سلعته لطرف ثالث لا علاقة له بالطرفين، حيث يقول الأستاذ علي: "وبهذا يتبين أن المتورّق (العميل) إذا باعها لشخص ثالث ليس له علاقة بالعاقدين، فقد خرج عن التورُّق المحرَّم حتى في نظر ابن القيم رحمه الله، وهذا النوع داخل ضمن ما سميته التورُّق المنضبط".[19]
ولم يتبين للباحث كيف استنبط الأستاذ علي القره داغي ذلك من عبارة ابن القيم، فكلام ابن القيم صريح في أنَّ المشتري سواء عليه باع السلعة للبائع الأول أو لطرف ثالث لا علاقه بالطرفين فإنَّ العملية محرمة ما دام أنه أراد بذلك النقد، لأنه علّل ذلك بأنه من صناعة المرابين، وصناعة الربا لا تكون إلا محرَّمة.
وثمة نصٌّ لابن القيم أكثر صراحةً في تحريم بيع السلعة لطرفٍ ثالث وإن لم تكن له علاقة بالمتعاقدين، حيث يقول عن مسألة التورق بأنها "شقيقة مسألة العينة؛ فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره؟ بل قد يكون عودها إلى البائع أرفق بالمشتري وأقل كلفة عليه وأرفع لخسارته وتعنيه".[20]
فهذا النص أشد صراحةً من سابقه في أنَّ ابن القيم يرى حرمة التورق مطلقاً سواء عادت السلعة إلى البائع أو عادت إلى غيره، بل إنَّ ابن القيم يرى أنَّ تحريم البيع لطرف ثالث أكثر وضوحاً.
إذا تبيّن ذلك، فإن الباحث لا يرى دقة ما نسبه الأستاذ القره داغي إلى ابن القيم مِن جواز التورق إذا ذهبت السلعة إلى طرفٍ ثالث، فنصوص ابن القيم صريحة بتحريم التورّق مطلقاً، بل المفارقة أن ابن القيم يرى أنَّ الصورة التي ذكرها الأستاذ القره داغي أولى بالتحريم من العينة.
ملحوظة: من خلال نصّ ابن القيم الثاني[21] نفهم أنَّ ابن القيم يرى أنَّ تحريم التورق أكثر وضوحاً من العينة، وهذا رأي يستحق التأمل والنظر، ولم يرَ الباحثُ هذا الرأي لأحد غير ابن القيم.[22]
[1] ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، الفتاوى الكبرى (بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1987م) ج4، ص21.
[2] ابن مفلح، الفروع، مرجع سابق، ج4، ص49
[3] المرداوي، الإنصاف، مرجع سابق، ج4، ص337.
[4] أبو داود، سليمان بن الأشعث، مسائل الإمام أحمد، تحقيق: طارق بن عوض الله (مصر: مكتبة ابن تيمية، ط1، 1990م)ج1، ص263.
[5] هي بالفارسية "شانزده" لكن يبدو أن النون حذفت بسبب خطأ مطبعي.
[6] وهي قوله "وإن كان لا يريد بيع المتاع الذي يشتري منك، فهو أهون، وإن كان يريد بيعه فهي العينة"
[7] ابن قدامة، المغني، مرجع سابق، ج4، ص133.
[8] وليست هي الصورة الوحيدة للعينة، كما نص على ذلك ابن قدامة، يُراجع: المرجع السابق، المكان ذاته.
[9] المرجع السابق، المكان ذاته.
[10] المرجع السابق، المكان ذاته.
[11] وهذه الرواية _إن صحّت_ فهي تعني أن الإمام أحمد يرى كراهية كل الأعمال التمويلية التي تمارسها المصارف الإسلامية في العالم؛ لأن المصارف الإسلامية تعوّل تماماً على بيع النسيئة بصرف النظر عن طبيعة المنتج، ولا تبيع بغير النسيئة أبداً.
[12] المرجع السابق، المكان ذاته.
[13] ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن قاسم (المدينة المنورة، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1995م) ج29، ص302.
[14] المرجع السابق، ج29، ص303.
[15] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع السابق، ج9، ص434.
[16] ابن القيم، إعلام الموقعين، مرجع سابق، ج3، ص135.
[17] ابن مفلح، الفروع، مرجع سابق، ج6، ص313.
[18] ابن القيم، شرح ابن القيم على سنن أبي داود، تحقيق: أحمد شاكر (بيروت: دار المعرفة) ج5، ص108.
[19] القره داغي، التورق المصرفي، مرجع سابق، ص29.
[20] ابن القيم، إعلام الموقعين، مرجع سابق، ج3، ص157.
[21] وهو قوله: " فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره؟ بل قد يكون عودها إلى البائع أرفق بالمشتري وأقل كلفة عليه وأرفع لخسارته وتعنيه".
[22] وجلي أنه امتداد لرأي شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث ذهب إلى أن الربا أخف من التورق.
التعليقات
يوجد 0 من التعليقاتلا يوجد تعليقات