حول حوار الشرق والغرب
اسم الكاتب : أ.د محمد أمزيان - أستاذ في جامعة قطر
المشاهدات : 2751
حول حوار الشرق والغرب
للحوار أهمية قصوى في تحقيق التلاقح المعرفي والتمازج الحضاري. فعن طريق الحوار، سواء في شكله العلمي الذي يتخذ طريق التأليف والنقد أو في شكله التواصلي الذي يتخذ شكل الاحتكاك المباشر، أو عن طريق المؤتمرات والندوات والملتقيات الدولية التي تعقدها الجامعات والمعاهد ومختلف الهيئات...، عن طريق هذا الحوار بكل أشكاله تتقارب الثقافات، ويقع التأثير والأخذ والعطاء، ويتحقق التفاعل بين مكتسبات الشعوب الفكرية والعلمية وحتى الأخلاقية والسلوكية.
وبنظرة عابرة حول واقع العالم المعاصر نجد أن أهم سمة ميزت حوار الحضارات فيه هي الأحادية والاستعلاء، إذ لم يكن هناك تكافؤ بين الأطراف المتحاورة، وكان الحوار في الغالب يتم بين غالب متفوق ماديا وعسكريا ومغلوب متخلف على كل المستويات.
ولقد ربط العالم الغربي بين تفوقه العلمي والمادي والعسكري وبين تفوقه في القيم والأخلاق والمعتقدات وتصوره لنمط الحياة، وسعى إلى فرض تصوراته تلك على الشعوب المغلوبة وتدويل ثقافته التي تلبست بالنـزعة الاستعلائية المنبثقة من الروح الاستعمارية. وبالمقابل اقتصر العالم المغلوب على التقليد والمحاكاة والتلقي، بل وتجاوز كل ذلك إلى الافتتان بالمظاهر المغرية للقيم الوافدة.
هذه الوضعية الأحادية التي سار فيها الحوار بين الشرق والغرب كانت لها انعكاسات جد خطيرة، فقد هزت ثقة الشعوب في قيمها ومعتقداتها وطرق عيشها بحيث كان الحوار يتجه إلى التشكيك والتدمير والإقصاء أكثر مما يتجه إلى التفهم والاستفادة المتبادلة.
غير أن هذه الوضعية الأحادية للحوار وما صاحبها من قوة تدميرية لثقافتنا ومقوماتنا القيمية لا يعني بالضرورة تفوق قيم الآخر وأخلاقياته ونمط حياته. ذلك أن ثقافتنا لم تتح لها بعد فرصة التعبير عن نفسها لتصل إلى الشعوب "المتحضرة".
ولئن كانت بعض الأصوات الشجاعة منا قد خرقت حجب الصمت المفروض عليها فإنها ظلت خافتة وعاجزة عن تخط أسوار الحصار الإعلامي المضروب من حولها، غير أننا ينبغي أن نمتلك الشجاعة الكافية لنعترف بالتقصير الحاصل من جهتنا، ذلك أن البيئة الثقافية في عالمنا الإسلامي نتيجة لهذا الوضع المريض لم تنجب بعد الشخصية المطلوبة في ميدان الحوار الحضاري إلا القليل النادر.
صحيح أننا نمتلك جامعات ومعاهد عليا ومجالس علماء وهيأة كبار العلماء ومجامع البحوث ولجان عليا وأكاديميات...، وصحيح أيضا أننا بلغنا حد الإسراف في الإنفاق على الندوات والملتقيات والمؤتمرات العامة منها والخاصة...، ولكن قيمة الوقت الذي تم إهداره والمبالغ المالية التي تم رصدها لهذا الغرض كانا أقل بكثير من النتائج المتوقعة، ودون بلوغ وتحقيق الآمال المرجوة. إن هذه المؤتمرات والمنتديات كثيرا ما كان يتم فيها تغييب الممثل الشرعي الفعلي القادر على الحوار الجاد لصالح تمثيلية صورية تمثل الدوائر الرسمية ببعدها الانتكاسي المعاكس لهوية الشعوب الإسلامية وتطلعاتها. وإذا رمنا التقصي والتفصيل، وجدنا أن وراء هذه الوضعية القلقة أسباباً موضوعية لابد من ذكرها أو بعض منها:
1-فهناك أولاً الازدواجية في التكوين المعرفي، وهي نتيجة طبيعية لإفلاس المنظومة التعليمية التي تعيش حالة من التشظي على مستوى البرامج والرؤى والأهداف. وكان من نتيجة هذا التشظي تخرج أجيال من المتعلمين تعيش حالة من الانفصام النكد، وتقف موقف الحياد السلبي تجاه القضايا المصيرية التي تهدد وجودها دون أن تحدث نفسها بأن تتصدر خشبة المسرح لحظة من الزمن. إنها تقنع لنفسها بالوقوف في الصفوف الخلفية لتأخذ مواقع الجمهور المتفرج على مسرح أحداث جسام تقرر مصيرها، وتراهن على التحكم في مستقبلها حيث يتاجر بقضيتها سماسرة الفكر ومغتصبو القيم ومغتالو الفضيلة.
وهي بعد ذلك مستعدة لتقبل كل ألوان البضائع الثقافة المعروضة على الساحة الدولية على شدة تضاربها وتناقضها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. إن هذه النخب الزائفة لا تجد حرجا، ولا تستشعر تناقضا في التلفيق بين عقيدتها المهتزة وما تفرضه من حقائق تمس الوضع الإنساني في أعماقه ووجدانه وسلوكه، كما في وضعه السلالي والأخلاقي والقانوني والتنظيمي والاجتماعي والسياسي...، وبين نظرية من النظريات الوافد الجديد ببريقه الخادع ولمعانه الزائف. هكذا تهيم هذه النخب الضائعة بين تطورية داروين، ونشوئية سبنسر، ووضعية كونت، وحتمية دوركايم الاجتماعية، وفرويد الجنسية، وماركس المادية، ووجودية سارتر، وتفكيكية دريدا، وأخيرا موت الإله وصنمية الإنسان مع جوليان هكسلي ونيتشه وراسل... حيث يغدو الحديث عن كل ذلك إبداعا ليس فيه ما يخدش عقيدتها، أو يعارض مسلمة من مسلماتها.
إنها صورة مضحكة حقا ولكنها تعبر أصدق تعبير عن الواقع الثقافي المؤلم الذي انتهى إليه جيل من المتعلمين المبرزين ممن وصفوا بقادة الفكر، وعمداء الأدب، ودعاة الحداثة، ورواد العقلانية، ورموز التجديد، وغيرها من الألقاب التي لم يكن لها أية دلالة حقيقية خارج ثقافة التهريب المنظم التي مارستها بقدر عال من الاحترافية مكنها من التسلل خفية إلى المراكز القيادية، والدخول إلى عالم الفكر من أبوابه الخلفية.
فهؤلاء جميعهم كانوا حاضرين في ساحات الحوار، في المنتديات الوطنية كما في المحافل الدولية، ولكنهم حضروا مصفقين لا مشاركين، وحضروا للتلقي لا للتلقين، كلماتهم صدى يتردد من بعيد لتحاكي ما تلقفوه من بقايا يوم كانوا في زمن الطلب ضيوفا على موائد السادة الغربيين، وما تشربوه من أصناف فنونه وآدابه.
2-وهناك ثانيا حالة الاغتراب المزمن التي رافقت المجتمعات العربية منذ بواكير نهضتها الحديثة مع طلائع البعثات العلمية التي كانت تؤم الجامعات الغربية أملا في تمثل بعض من إنجازاتها والاستفادة من مكتسباتها العلمية. إن الاغتراب الذي عاشته هذه الشريحة تجاوز بعده المكاني حيث الإحساس بالغربة عن الأهل والوطن إلى بعده الوجداني والمعرفي حيث الإحساس بالدونية الثقافية ومن ثم الارتماء في أحضان الثقافة المهيمنة التي نجحت في تجنيدهم للتبشير بقيمها ومفاهيمها داخل أوطانهم.
من المفارقات الغريبة حقا أن تعود هذه الطلائع إلى بلدانها الأصلية بغير الوجه الذي خرجت به. إن هذه الشريحة العريضة من المثقفين خريجي الجامعات الغربية، أولئك الذين رضعوا من ثدي الغرب لبان التغريب والاستشراق والتبشير والتحديث والتنوير وكل ألوان المسخ المعرفي كان لها النصيب الأوفر من تدمير الذات بدل تمثل فكر الآخر وتلقيحه. لقد عادت هذه النخبة وهي تنظر إلى ثقافتها الأصلية بغير قليل من الازدراء والاستعلاء، وهي تجد وتكد في سبيل توطين واستنبات الوافد الغريب، ضمن بيئة دينية وثقافية نابذة، لتخطو بذلك الخطوة الأولى نحو ثقافة الاحتراب التي كان من أخطر نتائجها تصدع المجتمع العربي، وانقسام وعيه الجماعي، وضياع هويته الدينية والحضارية.
لقد عادت هذه النخبة تحمل فكرا غريباً عن بيئتها عادت تنظر إلى مجتمعها بأعين مستعارة وبدا جليا أنها تقف على أرض غير التي خلفها الأجداد، وتتحدث لغة غير اللغة التي تفهمها الجماهير، وكان من نتيجة ذلك أن تكاثرت على رقعة الجسم الإسلامي خلايا فيروسية دخيلة كان لها النصيب الأوفر في عملية التدمير، تدمير القيم والمبادئ والأخلاق والمقدسات ووضع المسلمات موضع النقاش والجدل.
وأمام هذه التبعية وما تختزله من معاني الانهزامية وثقافة الاستجداء والاغتراب عن الذات، تتضاءل فرص الحوار الحضاري بين الشرق والغرب. ذلك أن هذه النخب التي تعيش حالة من الأمية الدينية والاغتراب الوجداني لا تملك ما تقدمه للآخر اللهم تلك الحواشي التي كانت ولا تزال تخطها على هامش المتون الأصلية التي ما فتئت تعمل على استنساخها ودون استئذان، وهو ما تلقاه بعض الغيورين من المفكرين الغربيين بقدر كبير من الاستهجان ولسان حاله يقول "بضاعتنا ردت إلينا".
ونتيجة لهذه الوضعية التي بدت على رقعة الجسم الإسلامي المنهوك، ظهرت اهتمامات فكرية جديدة لم تطرح طوال أربعة عشر قرنا من تاريخه الفكري تتمحور حول ما بات يعرف بإشكالية الهوية. لقد أصبحت النخبة المتغربة تطرح سؤال "من نحن"؟ وهو سؤال لم يكن معهوداً ولا متوقعاً حتى في أوساط عامة الجماهير التي كانت تعتبر سؤال الهوية محسوما منذ تلك اللحظة التاريخية الفارقة التي التحم فيها نسيج الأمة الإسلامية على قاعدة "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"، الأنبياء، الآية 92. لقد كان الحديث المتشابك عن الهوية وإن شئت عن فقدان الهوية كافيا للدلالة على أن ثقافتنا قد تغذت بالدخيل واللصيق وكل غريب، وكما يقول الأستاذ منير شفيق: "إنه لمن مآسي الأمة أن نطرح اليوم سؤال من نحن؟ إنه يتضمن اعترافا بأننا ضللنا الطريق إلى هذا الحد أو ذاك"(1).
ومن جهتنا نقول إن كتلة بشرية لم تهتد بعد إلى تعرف هويتها من البديهي أن تختفي عن ساحة الحوار، إنها لا تملك ذاتا تحاور عنها وليست لها هوية تعرف بها حتى تحاور من أجلها ولأجلها، ويوم تهتدي إلى تعرف ذاتها واكتشاف هويتها يوم ذاك فقط يمكنها أن تجد أرضية تقف عليها وتحاور من خلالها، وفي انتظار ذلك يبقى الضياع والفراغ وقابلية التشكل والتلون، وبعبارة النخبة المتغربة ذاتها تبقى الذات ساحة "مفتوحة لكل التجارب"(2).
إن هذه الشريحة من المتعلمين الذين أخذوا مواقعهم في معاهدنا وجامعاتنا ومراكز البحث في عالمنا الإسلامي الممتد، لم يكن يتوقع منهم أن يكونوا سفراء حضارتهم وثقافتهم ولم يكن منتظرا منهم أن يكونوا منارات يقتبس الغرب من إشعاعاتها وبات من المستحيل اعتمادهم جسوراً للتثاقف والتواصل، والأخذ والعطاء، فهؤلاء كما يقول الدكتور محسن عبد الحميد: "واجهوا الغرب وحضارته وعلمه وأدبه وفنه وواقعه، واجهوه بعقول خاوية وقلوب فارغة ونفوس مجردة عن معاني الأصالة والعزة، إنهم يواجهون من منطلق الجهل بالذات والشعور بالهزيمة"(3).
إن هذه النخبة بحكم جهلها بتراثها لا ترى في ثقافتها عناصر صالحة يمكن أن تستخدمها في حوارها الحضاري، إنها تنظر إلى تاريخها وحاضرها، وإلى ثقافتها وتراثها من منظور الآخر الذي يقع خارج الدائرة، إنها تشعر بالاغتراب تجاه ذاتها، وتشعر بالنفور من تراثها، وتتنكر لقدرها وهي تندب سوء حظها، وتود لو تقطع نسبها وكل وشيجة تصلها بماضيها، تصفق لكل ناعق عن غير بصيرة ولا وعي "كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" البقرة، الآية 171.
3-وهناك ثالثا الوصولية، وهي دين من لا دين له، هؤلاء الراقصون على جراحنا، تلك الفئة التي نقضت عهد العزة والفضيلة، وعانقت الخيانة والهزيمة، هذه الشريحة الإمعاتية التي تزن كل شيء بميزان المصلحة وتقول أنا مع الأسياد حيث كانوا.
لقد اتجه الاستعمار مع طلائعه الأولى إلى إعداد طائفة من الساسة ورجال الفكر والأدب التي ستعمل على تبنى برامجه، وتدافع عنها في المنابر السياسية والأندية الفكرية والأدبية. لقد شهد العالم الإسلامي ميلاد أحزاب استعمارية تصدرها نخب من رجال المال والفكر والسياسة جعلوا مهامهم تعبئة الرأي العام لمهادنة الاستعمار والتعاون معه، وكل ذلك تحت شعار "مصلحة الوطن"، وأنشئت لهذا الغرض جملة من الصحف والمجلات والدوريات استمرت على مدى أجيال في التأثير والتهيئ دون أن تجد من ينافسها بنفس العمق والامتداد، وأخذت على عاتقها مهاجمة الصحف الوطنية، والحركات التحررية، والأحزاب الوطنية، وجماعات الصحوة والممانعة، وتولى شعراؤها الرد على الأحرار المناهضين للاستعمار.
ألم يقف شاعر النيل يوما يمدح إدوارد السابع بتتويجه سنة 1902 داعيا له بالنصر المكلل، وهو الذي جثم على قلب العروبة والإسلام؟ هل كان حافظ إبراهيم لسان أمته المنكوبة المترجم لهمومها والمجسد لطموحها حينما قال:
إدوارد دمت ودام الملك في رغد ودام جندك في الآفاق منتصرا؟
أم تراه يعطي الدنية خاشعاً متذللاً تحت أقدام بريطانيا:
من ذا يناويك والأقدار جارية بما تشـائين والدنيا من قـهــرا
إذا ابتسمت لنا فالدهر مبتسم وإذا كشرت لنا عن نابه كشرا
إن هذه النخبة من الوصوليين والإمعاتيين، كما يقول المرحوم رشدي فكار، راهنت على الاستعمار ناشرة لتيارات التيئيس والقنوط، متغربة في لباسها ولسانها وحركاتها وسكناتها، عارضة لخدمتها وعمالتها، مسهلة للمستعمر مده على حساب جسد الأمة منطقا مغشوشاً وسلوكاً مريضاً...خلطت بين جنرالات الحرب ومحترفي إبادة الشعوب وبين ما في حضارة الغرب من ركائز موضوعية نتيجة لما اكتسبه من الحضارات السابقة وبخاصة حضارة الإسلام، وارتقت بزيفها كنخبة ظرفية إمعاتية إلى حد التنكر للأرضية التاريخية لحضارتها والدعوة إلى بترها من جذورها؟(4).
4-وهناك رابعا القصور الذاتي، هذه الحالة المرضية التي يعاني منها دعاة الأصالة والتجديد الإسلامي، والتي كانت ولاتزال تحد من فعالية الفكر الإسلامي المعاصر، وتجعله دون مستوى فهم إسلامه وواقعه على السواء، ودون مستوى التحديات التي يواجهها داخل حدوده وخارجها.
إن السطحية، والخطابة، والاجتزاء، وغياب التخصص، وضعف التخطيط، وترهل العمل الجماعي، وطغيان النظرة التراثية، والانغماس في اجترار الخلافات التاريخية، والنقص في استيعاب ثقافة العصر، وضحالة الإعلام والتواصل وغيرها من الآفات، تشكل أخطر العوائق التي تحد من الحضور الفعال للذات الإسلامية وتأخذ مكانتها التي تليق بها في الساحة الدولية.
(1) منير شفيق، الإسلام في معركة الحضارة، ص: 172.
(2) "إلى فكر مفتوح لكل التجارب" كان هذا الشعار إهداء تصدر صفحات كتاب "قضايا علم الاجتماع" لأوسيبوف، ترجمة سمير نعيم أحمد وفرج أحمد، وكان قصد المترجمان من رفع هذا الشعار فسح المجال للدراسات الماركسية في الجامعات الإسلامية.
(3) أزمة المثقفين تجاه الإسلام، ص: 50.
(4) نحو نظرية حوارية إسلامية، ج4، ص: 102.
التعليقات
يوجد 0 من التعليقاتلا يوجد تعليقات