في نقد موقف سبينوزا من المعجزة


اسم الكاتب : د.نايف بن نهار

المشاهدات : 2662

لا يؤمن سبينوزا بوجود المعجزات، ويرى "أنَّ التصديق بالمعجزة يجعلنا نشك في كل شيء ويؤدي بنا إلى الإلحاد".[1]

لنبدأ من حيث المفهوم، يُعرّف سبينوزا المعجزة بأنها "عمل يتجاوز حدود الفهم الإنساني أو نعتقد أنه يتجاوزه"[2] الهدف منها إثبات وجود الله كما وضح ذلك في عبارات مختلفة. هذه المعجزة بهذا المفهوم لا يعتقد سبينوزا أن وجودها مفيد شرعًا فحسب، بل إنه يعتقد أنَّها ضارة جدًا لكونها "ستمحو المعرفة الفطرية التي لدينا".[3]

أما لماذا يعتقد سبينوزا بذلك فلعدة أدلة، أبرزها دليلان:

الدليل الأول: أنَّ المعجزة عمل محدود، والعمل المحدود "لا يدل إلا على قوة محدودة"، وإذا كانت المعجزة قوةً محدودة فإننا "لا نستطيع على الإطلاق أن نستنج منها وجود الله"؛ لأنَّ الله قوّة غير محدودة. فكأن سبينوزا يرى لزوم أن يكون المعلول (المعجزة) غير محدودة ليصح أن تدل على "علة" غير محدود، فكل معلول غير محدود القوة يجب أن تكون علته كذلك.

والقول بشرطيّة التماهي بين العلة والمعلول قرره رينيه ديكارت من قبلُ، ومعلومٌ مدى تأثر سبينوزا بديكارت، يقول ديكارت: " يجب أن يكون في العلة قدر ما في المعلول من الوجود".[4]

نجد هنا ديكارت يقرر الفكرة ذاتها التي قررها سبينوزا، ويكاد يكون السياق متشابهًا، من حيث إن العلة المقصودة عند كلا الرجلين تتمثل في الذات الإلهية، والاختلاف في موضوع المعلول فقط. وقد يكون التأثر آتيًا من أتباع أوغسطين حين نشروا نظرية الفيض التي تلقّفوها من ابن سينا، إذ إن نظرية الفيض ترتكز على "تعذر صدور المتعدد عن الواحد، وتعذّر صدور المادة عن الروح؛ لأنَّه لا يصدر عن الشيء إلا ما كان من طبعه".[5]

 ومهما يكن من أمر، فإنَّ هذا استدلال غيرُ سديد؛ لأنَّ سبينوزا لم يكلّف نفسه عناء إثبات برهان المقدمة الكبرى في استدلاله، فنحن إذا أردنا نظم دليله يكون كالآتي:

المقدمة الأولى: الله علة للمعجزة،[6] وهي ليست موازية له.

المقدمة الثانية: وكل علة يجب أن تكون موازية لمعلولها حتى تكون معتبرة

النتيجة: المعجزة ليست معتبرة.

نلاحظ أنَّ الخلل بادٍ في المقدمة الثانية، فمن أين لسبينوزا أنَّ من شروط اعتبار المعلول أن يكون موازيًا للعلة في صفاتها؟ لم يذكر سبينوزا أي برهان على ذلك.

والواقع أنه ليس بالضرورة أن يتصف المعلول بصفات العلة حتى يكون معتبرًا، وإلا كان هو هو، أي أننا لو اشترطنا في المعجزة أن تكون قدراتها غير محدودة لأن الله الذي أوجدها قدراته غير محدودة، فما الفرق حينها بين الله والمعجزة؟

قد تكون قدرات العلة أعظم من قدرات معلولها، كما هو الحال مع الخالق وخلقه، وقد تكون قدرات المعلول أعظم من قدرات علته، كما هو حال الإنسان مع مخترعاته الكبرى، فهي أعظم منه من حيث القدرات.

إذن لا شرطية للتوازي بين المعلول وعلته، وبذلك يبطل استدلال سبينوزا.

الدليل الثاني: أن سبينوزا يعتقد أنَّ الكون مبني على نظام له قوانينه الدقيقة والثابتة، والتي تعكس بدورها قدرة الله العظيمة، والمعجزة من شأنها تقويض ثبات تلك القوانين، وهذا التقويض سيؤول إلى زعزعة الثقة في هذا النظام، وإذا شككنا في النظام الكوني الذي هو أعظم تعبير عن قدرة الله فإننا سوف نشك في كل شيء مما سيؤدي بنا إلى الإلحاد.[7]

وهذا دليلٌ يصلح لنقيض دعوى سبينوزا أكثر من صلاحيته لإثبات دعواه. بيان ذلك أنَّ سبينوزا يرى أنَّ للكون نظامًا يسير وفق قوانين ثابتة، والمعجزة من شأنها خرق تلك القوانين، وهذا ما يفتح باب الشك في النظام الكوني مما يؤدي مآلاً إلى الإلحاد.

وإذا تأملنا هذا الاستدلال فإنَّنا لا نستطيع التعويل عليه إلا إذا كان تغيير القوانين الكونية جاء نتيجة تغيير حتمي وليس بإرادة إلهية. أي لو أنَّ الله عزوجل وضع قوانين لهذا الكون وتغيّرت هذه القوانين لأسباب لا تخضع للإرادة الإلهية حينها يمكن أن يكون استدلال سبينوزا صحيحًا.

ولو تأمّل سبينوزا استدلاله لرأى أنَّ فيه دليلاً على قدرة الله وتأكيدًا على سلطته المطلقة؛ لأنَّنا لو افترضنا أنَّ قوانين الكون ثابتة لا تنخرم أبدًا _كما يريد سبينوزا_ لكان ذلك مدعاة للشك في قدرة الله، أي هل الله قادر على تغيير هذه القوانين أم لا؟

يعتقد بعض الفلاسفة أنَّ الله عزوجل خلق الكون وتركه يسيّر نفسه بنفسه، ولم يعد لله _تعالى عن ذلك_ قدرة على التحكّم في مجريات هذا الكون. دليل سبينوزا من شأنه تعزيز هذا الاعتقاد؛ لأنَّ سبينوزا لا يريد لأي قانون كوني أن يتوقّف أو يتغيّر، وهذا يجعلنا نعتقد بحتميّة تلك القوانين وأنَّها تتعالى على القدرة الإلهية، وهذا المعتقد هو أدعى إلى الإلحاد من معتقد إمكانية تغيير قانون كوني بإرادة الإلهية لإقرار معجزة.

إذن دليل سبينوزا يدلُّ على ضد دعواه؛ فما رآه دليلاً مؤديًا إلى الإلحاد رأيناه دليلاً يثبت القدرة الإلهية، وما رآه دليلاً على قدرة الله رأيناه دليلاً يمكن الاستدلال به على عجز القدرة الإلهية.

 


[1]  ص219

[2]  المرجع السابق.

[3]  سبينوزا، ص219.

[4]  ديكارت، رينيه، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة عثمان أمين (القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط1، 2014) ص120، ص127

[5]  ميخائيل، توما الأكويني، ص29.

[6]  المعجزة سبب وليست علة، بمعنى لا يوجد تلازم عقلي بين وجود الله ووجودها؛ لأنَّ العلة متلازمة وجودًا مع معلولها. ومع ذلك سوف نستعمل العلة بالمعنى الذي استعمله سبينوزا.

[7]  يقول سبينوزا ملخصًا ما مضى: "وعلى ذلك فإذا حدث شيء في الطبيعة لا يتبع قوانينها الخاصة، فإنَّ ذلك يناقض النظام الضروري الذي وضعه الله في الطبيعة إلى الأبد من خلال قوانين الطبيعة الشاملة، فهو إذن يناقض الطبيعة وقوانينها، وبالتالي فإنَّ التصديق بالمعجزة يجعلنا نشك في كل شيء ويؤدي بنا إلى الإلحاد". سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ص29.

التعليقات

يوجد 0 من التعليقات

لا يوجد تعليقات