هل كان اسبينوزا علمانيا ؟
اسم الكاتب : د.نايف بن نهار
المشاهدات : 3039
ثبوت علمانية اسبينوزا أو عدمها لا ينعكس بحالٍ على تحديد الموقف الإسلامي من علاقة الدين بالدولة، إذ إنَّ الموقف الإسلامي لا يُعرف إلا من النص الشرعي حصرًا. ومع ذلك فثمة حاجة لبحث موقف اسبينوزا من العلمانية من منطلق آخر، وهو أنَّ المقاربة الاسبينوزية لعلاقة الدين بالدولة تشكّل المرجعية الأشهر لكثير من الباحثين في المسألة العلمانية، إذ إليه يُعزى البدء الفلسفي في الفصل بين الدين والدولة.
لا يمكن لأحدٍ أن يفهم موقف اسبينوزا من العلمانية إلا إذا فهم موقفه من الدين نفسه، أي كيف يتصوّر اسبينوزا الدين من حيث المصدر والغاية.
يرى اسبينوزا أنَّ للدين مسارًا موازيًا للمسار العقلي، فالدين لا ينطلق من العقل ولا يتجه إليه، وبتعبير اسبينوزا الصريح: "اللاهوت ليس خادمًا للعقل، والعقل ليس خادمًا للاهوت، بل إنَّ لكل منهما مملكته الخاصة، للعقل مملكة الحقيقة والحكمة، وللاهوت مملكة الخضوع والطاعة".[1] بل إنه لا حاجة عند اسبينوزا للشريعة نفسها إذا كان الإنسان يمتلك نورا فطريًا، فله أن يكتفي به عنها؛ لأنَّ "الشريعة وُضِعت للذين لا يتمتّعون بالعقل وبتعاليم النور الفطري".[2]
وبناءً على هذا الفصل الصريح بين العقل والنقل، فإنَّ اسبينوزا يعتقد أنَّ الدين يهدف إلى إخضاع الناس وتحويلهم إلى كائنات مطيعة، ولذلك يتوجه إلى قلوبهم دون عقولهم. أما الفلسفة فإنها تهدف إلى إيصال الناس إلى الحق، ولذلك هي تتوجه إلى عقولهم. وهذا ما عبّر عنه اسبينوزا صراحةً حين قال: "الإيمان لا يتطلّب عقائد صحيحة، بل عقائد تؤدي إلى الطاعة".[3]
أما لماذا يتخذ اسبينوزا هذا الموقف، فالجواب يتمثّل في أنَّ اسبينوزا بعد دراسته لنصوص العهدين دراسة مستفيضة وصل إلى قناعة مفادها أنَّ "قوام الدين ليس الأفعال الخارجية بل يسر النفس وصدقها وحسن طويّتها، ومن ثم فهو لا يخضع لأي قانون أو لأية سلطة عامة".[4]
إذن لا يرى اسبينوزا في الدين شيئًا متعلقًا بالعالم الخارجي، فلا يزاحم السلطات ولا قوانينها؛ لأنَّه مؤطر بالإطار الإنسان الذاتي لا يتجاوزه. فالله عزوجل لم يطالب المؤمن بأفعال تستلزم التفاعل الاجتماعي العام، ذلك لأنَّ "عبادة الله وطاعته لا تكون إلا في العدل والإحسان، أي في حب الجار".[5]
ولما كان اسبينوزا لا يرى الدين عقلانيًا، وأنه محض خطاب عاطفي يبتغي إخضاع الناس، وأنه لا يمتلك من التشريعات إلا ما يتعلق بـ "حب الجار"، فإنَّ اسبينوزا يصل إلى قناعةٍ تقتضي منع رجال الدين ليس من التدخل في السياسة فقط، بل حتى من التدخل في الدين نفسه.[6] فلا يحق لهم امتلاك خاصية الفصل في تحديد مراد النص الديني، وإنما هذا الأمر موكول للسلطة السياسية، فهي المخوّلة بتحديد مناطات الإحسان والعدل الذي لا يرى إسبينوزا الدين يطالب بشيء أكثر منهما. فاسبينوزا إذن لا يطالب بفصل رجال الدين عن السياسة فقط، بل يطالب بفصل رجال الدين عن الدين نفسه.
بعد أن رأينا موقف اسبينوزا من الدين أعتقد أنه صار واضحًا للقارئ لماذا تبنَّى اسبينوزا الموقف الحاد والصارم تجاه السلطة الدينية،[7] واتضح كذلك لماذا لا يصح لأحدٍ أن يصف اسبينوزا بأنه علماني. ذلك أننا حين نقول إن اسبينوزا لم يكن علمانيًا؛ فلأن العلمانية إن كانت فصل الدين عن الدولة فلا يمكن تصوّرها إلا إذا تصوّرنا وجود دين له تشريعات سياسية، والدين في تصوّر اسبينوزا لا يتضمّن أي تشريعات سياسية، بل هو محضُ حثٍ على العدل والإحسان المتمثلين في "حب الجار" كما سبق شرحُ ذلك. فإذن يرى اسبينوزا أن الدين من حيث هو تشريع مفصول عن الواقع السياسي، فإذا كان كل منهما منفصلاً عن الآخر، فمن المنطقي إذن أن نجدهما في الواقع مفصولين، وأما إن وجدا في الواقع متداخلين فهذا يدل على خلل إما في توظيف الدين أو في توظيف السياسة أو في كليهما، وفي جميع الأحوال ثمة خلل. تأمَّل النص الآتي لاسبينوزا: "ولم أجد فيما يعلنه الكتاب صراحةً شيئًا يخالف العقل أو يناقضه، ووجدت أنَّ التعاليم التي أتى بها الأنبياء سهلة للغاية، يسهل على الجميع إدراكها، وبناءً على ذلك فقد اقتنعتُ اقتناعًا جازمًا بأنَّ الكتاب يترك للعقل حريَّته الكاملة، وبأنه لا يشترك مع الفلسفة في شيء، بل إنَّ لكل منهما ميدانه الخاص".[8]
هذا النص يدل دلالة واضحة على حقيقة موقف اسبينوزا من الدين، فلأنَّ اسبينوزا لا يرى الدين أكثر من المطالبة بالعدل والإحسان، فإن ذلك يستلزم منطقيًا أن لا يكون للدين علاقة واقعية بالسلطة السياسية. وتفريعًا على ذلك يمكننا أن نجزم بأنَّه لو كان اسبينوزا يؤمن بدينٍ له تشريعات مرتبطة بالشأن العام لأقرَّ بها ولما أنكرها، وكيف يصحُّ منه ذلك وهو القائل: "إنَّ معرفتنا كلها _ وكذلك اليقين الذي يقضي بالفعل على كل شك _ يتوقّف على معرفة الله وحدها؛ لأنَّ الشيء لا يمكن أن يوجد أو يُتصوّر بدون الله؛ ولأننا في إمكاننا أن نشك في كل شيء طالما ليست لدينا عن الله فكرة واضحة ومتميّزة. وينتج عن ذلك أنَّ خيرنا الأقصى وكمالنا يعتمدان على معرفة الله وحدها".
ثم يقول: "وهكذا لا تعتمد كل معرفتنا _أي خيرنا الأقصى_ على معرفة الله فحسب بل تنحصر فيها كليةً".[9]
وفي كتابه "رسالة في إصلاح العقل" نجده ينظّر للمعرفة ومصادرها وأنماطها وأشكالها في نحو ثمانية عشر فصلاً، ثم في نهاية هذا التنظير نجده يقول إن الفائدة المترتبة على كل ما سبق هي "أننا في الواقع عبادُ الله وخدمُهُ، وأنَّا نغنم من ذلك بالضرورة كمالاً عظيمًا؛ لأنه لو كان كياننا مستقلاً عن كيان الله ولا يتبعه، لكانت الأمور التي نستطيع إنجازها قليلة، بل لكانت معدومةً، ولكان عجزنا هذا سببًا في تعاستنا".[10]
هل ثمة فيلسوف يقول مثل هذا الكلام ثم يكون محاربًا للتشريع الإلهي وهو يرى معرفته لا تعتمد على المعرفة الإلهية فحسب، بل منحصرة فيها؟
وأصرح من ذلك أنَّ اسبينوزا نفسه يقر هذه الفرضية، فهو حين افترض وجود دين له تشريعات خارجية طالب بصراحة بأن يلتزم المرء بالدين حين يتعارض مع قرارات الدولة.
انظر مثلاً إلى إجابته على السؤال الذي طرحه بنحو اعتراضي افتراضي، وهو أنه "ما العمل إذا ما أعطت السلطة العليا أمرًا مناقضًا للدين والطاعة التي وعدنا بها الله تنفيذًا للعهد الصريح؟ هل يجب الخضوع للآمر الإلهي أم الآمر البشري؟".[11]
ماذا أجاب اسبينوزا على هذا السؤال المفصلي؟
أجاب بقوله: "سأكتفي بأن أقول هنا بأن عليه أن يطيع الله قبل كل شيء، عندما يكون لدينا وحي يقيني لا شك فيه".[12]
الخلاصة في موقف اسبينوزا أنَّه لا يمكن تصوّر وجود العلمانية في قناعاته إلا إذا تصوّرنا أن اسبينوزا يؤمن بوجود دين له تشريعات مرتبطة بالدولة، ولما كان اسبينوزا لا يؤمن بدين له تشريعات مرتبطة بالدولة أو حتى بالعقل،[13] فمن المحال إذن أن نتصوّر تبني اسبينوزا للعلمانية. ولذلك نقول إن اسبينوزا لم يقرّر فصل الدين عن الدولة بل أقرَّ الفصل. تمامًا كما أنَّ ابن رشد لم يصل بين الشريعة والحكمة بل أقرَّ الوصل.
وهذه الخلاصة ينبغي استحضارها عند تناول الفلاسفة الغربيين عمومًا، فكل فيلسوف لا يؤمن بأن للدين تشريعات مرتبطة بالدولة أو يؤمن بأنه لا علاقة لها بالعقل، فلا يصح لنا أن ننسب له القول بالعلمانية إلا إذا صح أن ننسب العمى للحائط. فكما أننا لا نستطيع القول إن الحائط أعمى لأنه لا يملك أصلاً عينًا تجعل الإبصار ممكنًا، فكذلك لا نستطيع القول إن الفلاسفة الغربيين علمانيون لأنهم لا يملكون أصلاً دينًا فيه تشريعات سياسية تجعل العلمانية ممكنة.
فعلى سبيل المثال يصرّح ديفيد هيوم بأنَّ الدين لا علاقة له بالعقل، وينكر على الذين يحاولون إثبات صحة العقائد الدينية بالأدلة العقلية، وهذا ليس قدحًا في الدين، بل حكايةً لواقعه كما يراه هيوم. فحين يقول هيوم: "إن ديننا الفائق القداسة مؤسس على الإيمان وليس على العقل"،[14] فهو كما ترى يقدّس الدين ويقدّره، لكنه في الوقت نفسه يفهم الدين بأنه مفصولٌ بطبيعته عن العقل. ففي هذه الحالة هل يمكن أن نقول إن ديفيد هيوم علماني؟ لا يمكن أن يكون علمانيًا من يعتقد أن الدين نفسه مفصولٌ عن العقل؛ لأنَّ العلمانية هي عملية فصل، والمفصولُ لا يُفصل.[15]
فإذن لا يصح النظر إلى مقاربة اسبينوزا _ومن ارتضاها _ على أنها تشكّل مرجعية مطردة لمقاربة الدين والدولة، وإنما هي مرتهنة بالنص الديني الذي شكّل منطلقًا لتلك المرجعية.
[1] اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ص360. وبهذا النص يكون اسبينوزا قد أجبر الفلسفة على تقديم استقالتها من الوظيفة التي كانت تمارسها طوال عهد الفلسفة المدرسية.
[2] المرجع السابق، ص159
[3] المرجع السابق، ص349
[4] المرجع السابق، ص 254.
[5] المرجع السابق، ص351.
[6] يقول اسبينوزا: "من الخطورة على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء مَن يقومون بشؤون الدين الحق في إصدار القرارات أيا كانت أو التدخل في شؤون الدولة". المرجع السابق، ص416.
[7] إلى حد أنَّه الوحيد من الفلاسفة _بحسب اطلاعي_ الذي طالب صراحةً بنزع سلطة تفسير النص الديني من رجال الدين ونقلها ضمن اختصاصات السلطة السياسية، أي أنه لا يطالب بفصل رجال الدين عن السياسة، بل بفصل رجال الدين عن الدين نفسه.
[8] اسبينوزا، ص116.
[9] المرجع السابق، ص 186.
[10] اسبينوزا، رسالة في إصلاح العقل، ص178.
[11] اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ص380.
[12] المرجع السابق، المكان نفسه.
[13] يقول اسبينوزا عن الإنجيل: " فمع أن الدين كما بشر به الحواريون _أي مجرد رواية سيرة المسيح_ لا ينتمي إلى مجال العقل، فإنَّ كلا منهم قادر بالنور الفطري على إدراك جوهر الدين يتألف أساسًا كما تتألف عقيدة المسيح كلها من تعاليم خلقية". إسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ص116.
[14] هيوم، ديفيد، مبحث في الفاهمة البشرية، ترجمة د. موسى وهبة ( بيروت، دار الفارابي، ط1، 2008 ) ص178.
[15] زد على ما مضى أنَّه لم يكن في أوروبا اتجاه معادٍ للدين من حيث هو دين إلا بعد الثورة الفرنسية وانتشار قيمها. ولذا فإن عداء الدين كان نتيجة للثورة الفرنسية ولم يكن سببًا لها على حد تعبير مؤرخ الثورة الفرنسية دو توكفيل.
التعليقات
يوجد 0 من التعليقاتلا يوجد تعليقات