هل يمكن تأسيس علم اجتماع خليجي؟
اسم الكاتب : نايف بن نهار - أستاذ في جامعة قطر
المشاهدات : 5350
لا يهدف هذا المقال لتأصيل الإجابة على سؤال العنوان، بل يهدف إلى تأصيل السؤال نفسه، فالمقال سؤالٌ مطوّل موجه للمتخصصين في علم الاجتماع، يستبطن في طيّاته مسوّغات طرحه، لا أكثر.
تعاني العلوم الاجتماعية عمومًا من فجوة منهجية وواقعية بين الإنتاج النظري وواقع المتلقي العربي، إذ إنَّ الأطر والمواد النظرية لهذه العلوم منطلقة "من" العقل الغربي ومتجهة "إلى" العقل الغربي، فصار العقل الغربي في المحصّلة هو المفكّر به والمفكّر فيه. وترتب على ترك مخرجات العقل الغربي تتحدث نيابةً عن السياقات الاجتماعية الأخرى، فقدانُ الواقع العربي لتنظير معرفي حقيقي يعبّر عن احتياجاته. وهذه المشكلة أكدها الفيلسوف العربي محمد عابد الجابري حين قال: "النخبة العصرية العربية تشرّع للمجتمع العربي لا انطلاقًا من تحليل الواقع العربي، بل باعتماد نتائج تحليل واقع آخر، هو واقع هذا القطر الأوروبي أو ذاك، ومن هنا كانت تلك الفجوة، بل الهوة بين الفكر والواقع، بين النخبة والجماهير في العالم العربي".
وقد ذكر أستاذ علم الاجتماع عبد الوهاب بوحديبة أنَّ كثيرًا من علماء الاجتماع أصبحوا يساهمون في تزييف وعي المجتمع نظرًا لأنهم يستلهمون بناءً نظريًا لا يمت لواقعنا بصلة، ويؤكد مرارًا على أنَّ "مشاكل المجتمعات الأخرى تختلف عن مشاكلنا، وأن الإجابات التي توصل إليها الآخرون عن معالجة مشاكلهم لا تصلح لمعالجة مشاكلنا". وقد أقرَّ بهذه الفجوة بين النظرية والواقع كبار رواد علم الاجتماع في العالم العربي، مثل الطاهر لبيب وسعد الدين إبراهيم وسالم ساري وناهد صالح ومحمد حجازي وغيرهم.
ومن وحي هذه الفجوة تأتي حتميّة فكرة "أقلمة" العلوم الاجتماعية Regionalization، و"الأقلمة" تعني جعل العلوم الاجتماعية قادرة على أن تعبّر عن احتياجات الواقع الذي ينتمي إليه المتلقّي والإجابة على أسئلته، فهي تعبيرٌ عن ضرورة منهجية لتكامل المعرفة والواقع.
وامتدادًا لفكرة "الأقلمة" _المتعيّنة في مختلف حقول المعرفة الاجتماعية_ تأتي فكرة تأسيس علم اجتماع خليجي، ليس باعتباره بديلاً لعلم الاجتماع العام، بل باعتباره فرعًا منه اقتضى وجوده اختلاف الحمولة الدلالية للمفاهيم المحورية للنظرية الاجتماعية في عمومها، والتي بموجبها نشأ حول علم الاجتماع العام General Sociology العديد من الفروع التي اقتضاها الإلحاح المنهجي والواقعي.
إذن الموقع المعرفي لـ "علم الاجتماع الخليجي" أنه فرعٌ من علم الاجتماع العام، أي أنه يأتي باعتباره تطورًا طبيعيًا لعلم الاجتماع العام بمقتضى استقلال خصائص الاجتماع الخليجي استقلالاً يقتضي التمايز الموضوعي، وبذلك يتبيّن أن علم الاجتماع الخليجي لا ينفي صلاحية الخصائص العامة للاجتماع الإنساني لتشكيل موضوع علم الاجتماع، بل هي تعزز من دقة هذا العلم من خلال إعطاء التباينات الثقافية اعتباراتها الفاعلة.
ولشرح الفكرة نقول: إنّ علم الاجتماع العام معني بدراسة الأوضاع والعناصر والأشكال والقوى والمخرجات للاجتماع الإنساني على حد تعبير Albion Small في دراسته المنشورة في American Journal of Sociology. ومثل هذا المنحى لا يمكن أن يعبّر إلا عن المبادئ العامة والخطوط العريضة للاجتماع الإنساني بمقتضى تباين سياقاته ومكوناته المنشئة للخصائص، كما قال أنتوني غدنز: "البشر يشتركون في خصائص عامة تجمع بينهم، إلا أنَّ ثمة مواضع عديدة للتباين والتنوّع والاختلاف بين مختلف المجتمعات والثقافات".
ولذلك كان من المهم الالتفات إلى ما ذهب إليه كبار روّاد علم الاجتماع مثل دوركايم _وهو مؤثر في علم الاجتماع أكثر من أوغست كونت نفسه_ والبيون سمول، وهبهاوس وغيرهم من ضرورة وجود فروع متفرعة عن علم الاجتماع، بحيث تكون وظيفة علم الاجتماع العام وضع الأطر العامة والمبادئ المشتركة للسلوك الاجتماعي، أما الاختلافات بين المجتمعات فهذه تستلزم أن يتفرع عن علم الاجتماع علومٌ جزئية تتكفل بالتعبير عنها، وهذا ما رضخ له التراكم المعرفي والتاريخي لعلم الاجتماع، فتفرّع عن علم الاجتماع العام فروع متعددة تستجيب لتلك الخصائص، سواء كان ذلك لاعتبار المكان كعلم اجتماع بدوي Sociology Bedouin وعلم اجتماع حضري Urban Sociology، وعلم اجتماع ريفي Rural Sociologyأو كان لاعتبار كيفي كعلم الاجتماع الاقتصادي Economic Sociology وعلم الاجتماع التربوي Educational Sociology. كل هذه الأنماط الثانوية المتفرعة عن الاجتماع العام تدلُّ على إمكانية_ إن لم يكن ضرورة_ الاستقلال النسبي للموضوع الاجتماعي المختلف الخصائص؛ فلأنَّ للاجتماع البدوي خصائص تختلف عن خصائص الاجتماع الحضري بما يعكّر صفو تعميم الأحكام فقد اضطر علماء الاجتماع إلى إنشاء هذا الفرع وتمييزه عن غيره. (فروع علم الاجتماع ولدت متأخرة عنه في السياق الغربي، أما في السياق العربي _عند ابن خلدون تحديدًا_ فقد كان التأسيس على التوازي لا على التوالي، إذ إنه أصّل للاجتماع العام في مقدمته، وفي المقدمة نفسها أصّل لعلم الاجتماع السياسي والحضري والاقتصادي)
إذن التفكير بتأسيس علم اجتماع خليجي لا يعدُّ مضادًا أو قادحًا لمنطق التفكير في علم الاجتماع، بل يأتي منسجمًا مع تطورات بنيته المعرفية عبر التاريخ؛ لأنَّ علماء الاجتماع أعطوا اعتبارًا موضوعيًا لأنماط اجتماع ثانوية على هامش الاجتماع العام لوجود اختلاف كيفي لوحدات التحليل في علم الاجتماع كما سبق توضيح ذلك، وتاليًا فإنَّ وجود اختلاف جذري في مكوّنات الوحدة التحليلية لعلم الاجتماع في السياق الخليجي يُلزمنا كذلك بأن يكون هناك فرع يعبّر عن هذا التمايز.
ويمكن وضع الفكرة في القالب المنطقي الآتي:
وحدة التحليل في علم الاجتماع هي المجتمع، لا باعتبار أفراده بل باعتباره كلاً، و"الكل" هنا بالمدلول المنطقي الموازي "للكلي". والمجتمع مفهوم ذهني اعتباري، ليس له تشخّص في الواقع إلا في صورة وحدات تحليلية متعددة، وهذه الوحدات ليست كونيّة عابرة للثقافات، بل هي نسبية تبعًا للمجتمعات الحاضنة، وفي السياق الخليجي تختلف هذه الوحدات اختلافًا جذريًا _كما وكيفًا_ عن السياقات التي تعبّر عن الإنتاج العام لعلم الاجتماع، واختلاف الوحدات في الكم والكيف يقتضي اختلاف الخصائص، واختلاف الخصائص يقتضي اختلاف الموجّهات للسلوك الاجتماعي، واختلاف الموجّهات يقتضي اختلاف التفسير الاجتماعي، وإذا اختلف التفسير الاجتماعي اختلف الركن الأساس لعلم الاجتماع، إذ إنَّ وظيفة التفسير الاجتماعي هي الوظيفة الأساسية لعلم الاجتماع.
هذه هي البرهنة الموجزة لتأسيس علم اجتماع خليجي، وهنا أودُّ التنبيه إلى مسألة منهجية، وهي أنَّ الإقرار بأنَّ علم الاجتماع الخليجي فرع من علم الاجتماع العام وليس موازيًا له يعفي هذا الفرع من الاستحقاقات المنهجية لتأسيس العلوم؛ لأنه ليس علمًا بقدر ما هو فرعٌ عن علم، وإنما هو مطالبٌ بأن يمتلك الحد الأدنى من المقوّمات التي سمحت بتأسيس فروع علم الاجتماع العام، كعلم اجتماع المثقفين وعلم الاجتماع الصناعي وعلم الاجتماع الزراعي وغير ذلك من الفروع.
علم الاجتماع الخليجي انعكاس طبيعي لتباين حمولات المفاهيم المحورية في البناء الاجتماعي
لو تأملنا المفاهيم ذات البعد المحوري في تكوين البناء الاجتماعي لوجدناها تختلف اختلافًا جذريًا في السياق الخليجي، فمفاهيم مثل "الأسرة" و "القبيلة" و "الدين" و "الطائفة" و "التاريخ" و "الشرف" وغيرها من المفاهيم الموجّهة للسلوك الاجتماعي سنجدها تختلف في حمولتها وكيفيتها في السياق الخليجي عن جميع السياقات الأخرى المشكّلة للإنتاج العام في علم الاجتماع.
فعالم الاجتماع اليوم حين يبحث في موجّهات السلوك في الاجتماع الخليجي لا بد من أن يعطي اعتبارًا لفواعل غير معتبرة في سياقات أخرى، فوحدة تحليلية مثل "القبيلة" لا تُعطى اهتمامًا معتبرًا في السياق الغربي بأكمله؛ لأنّها لا تملك انعكاسًا على توجيه السلوك الاجتماعي للاجتماع الغربي أو حتى بعض المجتمعات العربية، في حين للقبيلة حيّز كبير في تكوين النظم الاجتماعية في السياق الخليجي، وتؤدي دورًا كبيرًا في فهم أنماط السلوك الاجتماعي الخليجي _كالهوية والزواج_ بما لا تتخيّله العقول المصدّرة للإنتاج المعرفي في علم الاجتماع في السياق الغربي.
ولو أخذنا على سبيل التمثيل مفهوم "العائلة" الذي يعدُّ من المفاهيم الجوهرية إلى المستوى الذي تفرع عن علم الاجتماع العام فرع خاص بشؤون العائلة يُطلق عليه "علم اجتماع العائلة" Sociology Family، فإننا نجد هذا المفهوم الجوهري لا يكاد يتطابق بين السياقين الغربي والخليجي، فالأسرة تختلف بنيويًا بين السياقين الخليجي والغربي، وتختلف كذلك من حيث الفاعلية في توجيه السلوك الاجتماعي. ولأجل اختلاف الأسرة بنيويًا واعتباريًا بين المجتمعات الإنسانية نجد أن "علم اجتماع العائلة" نفسه تولّدت منه منظورات جديدة تأخذ بالاعتبار التغييرات الجذرية التي أصابت المجتمعات الصناعية.
وكذلك لو جئنا إلى مفهوم "الدين" في السياق الخليجي سنجده ظاهرة فريدة ومركبة تركيبًا شديد التعقيد، إذ إنَّ الدين المشكّل للوعي الخليجي هو الإسلام، والإسلام _على خلاف معظم أديان العالم_ له تشريعات في مجالات الحياة كلها، فهو موجه مباشر لجميع الأنشطة الاجتماعية، سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية أم غير ذلك. وحين يكون الدين شموليًا بهذه الطريقة فإنَّ ذلك ينعكس على شموليّة الموجّه مما يستلزم استحضاره في تفسير أي نشاط اجتماعي. كما أنَّ شمولية الدين تنعكس على توسيع دائرة أنماط التديّن واختلافها؛ فلو نظرنا مثلاً إلى أنماط التدين عند المسلمين في الجانب السياسي ستجد تباينات واسعة، ناشئة في حقيقتها من كثافة الأحكام الدينية المتعلقة بهذا الحقل مقارنةً مع الأديان الأخرى. وهذا الاختلاف في تفاعل المتدين الخليجي قد يصل أحيانًا إلى تقويض رؤية المدرسة الوظيفية لدور الدين في الفعل الاجتماعي، من حيث النظر إلى الدين باعتبار وظيفته الاجتماعية المتجسدة بخلق قيم مشتركة تحفظ استقرار المجتمع وتوازنه.
أما مفهوم "الشرف" فهو يجسّد الفجوة الواسعة في التفسير الاجتماعي، فهذا المفهوم يعدُّ محوريًا في النظم الاجتماعية في الحالة الخليجية، لكنه _بمدلوله العربي_ ليس له اعتبار في السياق الغربي، بل قد تجد مفهومه في الغرب يأتي على الضد من مفهومه في الخليج، فما يعدُّ "شرفًا" في الخليج قد لا يعد شرفًا أصلاً في الغرب أو حتى في بعض الأقطار العربية، وحتى ما يتم التوافق على تنميطه شرفًا ليس له التأثير ذاته في هذه السياقات.
مما سبق يتضح أن هناك تباينًا في وحدات التحليل الاجتماعي في السياق الخليجي كمًا وكيفًا عن أشكال الاجتماع الإنساني الأخرى بما يعكّر صفو التعميم، وإذا ثبت ذلك فإنَّه من المتعين إذن أن يكون لذلك الاختلاف اعتباره تصوّرًا وتقييمًا، وإلا فإنَّ المآل سيتجسَّد في ترسيخ الفجوة بين الإنتاج النظري الذي يُدرّس للطلبة في مقررات علم الاجتماع وبين الواقع المعيش؛ لأنَّ اختلاف حمولة المكوّنات المشكّلة للنظم الاجتماعية ينعكس بالضرورة على البناء الاجتماعي "Social structure" الذي يشكّل بدوره إطارًا عامًا للتفاعلات الاجتماعية في أي مجتمع، ولا يمكن تصوّر المجتمع تصوّرًا سليمًا إن لم يصح تصوّر بنائه الاجتماعي. ولا يقلل من إشكالية تعميم موضوع بحث علم الاجتماع أنه علمٌ وصفي تفسيري، وليس علمًا معياريًا أخلاقيًا، فيُعتقد تبعًا لذلك أنَّ الاختلاف الناشئ عن اختلاف السياقات لا يمتلك تأثيرًا محوريًا خارج دائرة التصوّرات؛ لأنَّ وظيفة التفسير بحد ذاتها وظيفة محورية في بناء الوعي وتقييمه، بل هي الوظيفة الأصلية.
كما أنَّ تمايز علم الاجتماع الخليجي لأجل اختلاف خصائصه ينسجم ليس مع تصوّرات بنية علم الاجتماع فقط كما سبق شرح ذلك، بل هو منسجم مع منطق تطوّر العلوم كلها، إذ إنَّ كل علم تنشأ على هامشه علوم أخرى حين يكون لها موضوعات مستقلة في اعتباراتها، فعلم النفس مثلاً نشأ عنه علم الطفل، وهذا التفرّع ليس اعتباطًا، بل لأنَّ علماء النفس اكتشفوا أنَّ للطفل خصائص تختلف بنحو كبير عن خصائص الإنسان الراشد، بعد أن كانوا يعتقدون أنه مجرد نموذج مصغّر للإنسان الراشد، فاضطروا لتأسيس فرع خاص بعلم نفس الطفل ليعبّر عن المستوى المباين في الخصائص.
إذن اختلاف الخصائص يؤدي إلى التمايز الموضوعي، وإذا حصل التمايز الموضوعي حصل تمايز العلوم؛ لأنَّ العلوم إنما تتمايز بتمايز موضوعاتها أصالةً.
تعريفات علم الاجتماع تنسجم مع منطق الأقلمة
على الرغم من اختلاف روّاد علم الاجتماع في تعريفه _كأي فرع من فروع الحقل الاجتماعي_ فإنَّك تجد في معظم التعريفات الواردة عناصرَ تدلُّك على الحيّز النسبي المسوِّغ لأقلمة علم الاجتماع. فسواء نظرنا إلى التعريفات التي تنص على أن علم الاجتماع هو دراسة المجتمعات كما ذهب إلى ذلك أوغست كانت، أو التعريفات التي ترى محوريّة "النظم الاجتماعية" كما هو عند سبنسر، أو محورية "الظواهر الاجتماعية" كما هو عند إميل دوركايم، فإنَّ هذه المفاهيم لا تشير إلى دلالات عابرة للثقافات والحضارات، فالنظم الاجتماعية_ التي تشكّل الموجّهات العامة لمختلف أوجه السلوك الإنساني في أي مجتمع_ تختلف من مجتمع لآخر، ولا يمكن وصفها وتفسير نشأتها وتطورها إلا إذا أدركنا مكوّنات هذه النظم الاجتماعية، ولما كانت المكونات تختلف كمًا وكيفًا فإنَّ هذه النظم مختلفة كذلك. والظواهر الاجتماعية ليست متساوية كمًا وكيفًا في المجتمعات الإنسانية، فهناك ظواهر تتجلى في بعض المجتمعات وتختفي في مجتمعات أخرى، وهناك ظواهر توجد بكيفية معينة في مجتمعٍ ما معين وتوجد بكيفية أخرى في مجتمع آخر.
ولو اعتمدنا تعريف رأس هرم علماء الاجتماع في القرن العشرين الألماني ماكس فيبر في كتابه المشهور Theory of social and economic organization لوجدنا حتمية "الأقلمة" ظاهرة، إذ إنَّه يعرّف علم الاجتماع بأنه العلم الذي يسعى لفهم تفسيري للفعل الاجتماعي.
فهل يمكن الوصول إلى "تفسير فعل اجتماعي" تفسيرًا منتجًا دون أن تكون موجّهات هذا الفعل المحور الأساس للدراسة؟ إنَّ الفعل الاجتماعي لا ينتج من عدم ولا يُمارس في عدم، بل ينتج ويتفاعل من ومع نظم اجتماعية حاكمة للوعي المجتمعي، وهذا يختلف أشد الاختلاف من بيئة لأخرى، فالخليجي يحكّم الدين والعرف القبلي في السلوك الاجتماعي، في حين لا يوجد لهذين العنصرين اعتبارًا في سياقات أخرى.
وإذا كان من مهام علم الاجتماع كما يقول روّاده أن يكشف عن القوانين التي تؤثر في الانتقال من حالة اجتماعية إلى أخرى، فهل يمكن الوصول إلى ذلك أن يكون لدينا متخصصون في مكونات هذه القوانين والأطر التي تعمل في ضوئها؟
دعوى أقلمة علم الاجتماع ليس بدعة
لا يوجد فرع من فروع المعرفة الاجتماعية والإنسانية تعرّض لضغط الاستجابة للواقع العربي كما تعرّض له علم الاجتماع، فقد كثر التذمّر من باحثي علم الاجتماع في الوطن العربي من اغتراب الواقع العربي عن البنية النظرية لعلم الاجتماع. ونتيجةً لهذا التذمّر ذهب بعض المتخصصين في علم الاجتماع إلى أن المشكلة تكمن في عدم تفاعل علم الاجتماع مع الواقع العربي ليكون معبّرًا عن إشكالاته واحتياجاته. في حين ذهب آخرون إلى الطعن في علم الاجتماع من أساسه، أي من حيث بناؤه النظري التأسيسي، حيث يقول الدكتور أحمد خضر في كتابه (اعترافات علماء الاجتماع) إنه: "لو ألغي هذا الاختصاص _أي علم الاجتماع_ من جامعاتنا فإنَّ غيابه لن يكون نقصًا ولا تخلّفًا معرفيًا". وينقل عن الدكتور سعد الدين إبراهيم قوله: "لو افترضنا أن اختفى كل علماء الاجتماع العرب فجأةً فإنه لا شيء يمكن أن يحدث للمجتمع سلبًا أو إيجابًا".
وقد جاءت دعوات أقلمة علم الاجتماع مبكرةً إذا ما نظرنا إلى عمر العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، حيث عُقدت ندوة علمية قبل خمسة وثلاثين عامًا في أبوظبي لمناقشة فكرة تأسيس علم اجتماع عربي، شارك فيها مجموعة من المتخصصين في علم الاجتماع، وصدرت في كتاب بعنوان "نحو علم اجتماع عربي" من إصدارات مركز الوحدة العربية. وقد توافقت كلمة المشاركين في الندوة على إشكالية الفجوة بين البناء النظري لعلم الاجتماع والواقع العربي. يقول فوزي العربي إن علماء الاجتماع العرب "يؤيدون قضاياهم بأفكار راديكالية لا تمت إلى مجتمعنا العربي الذي نعيش فيه بصلة، والنتيجة عكسيّة سواء من ناحية المساقات أو من ناحية المناهج أو الموضوعات المطروحة في أقسام الاجتماع في الجامعات العربية، تنعكس على الطلاب بصفة خاصة، إذ نجد أن الطالب المتخصص يتعرض لآراء المفكرين الغربيين أو الماركسيين أكثر من تعرضه للفكر الاجتماعي عند العرب".
ثم يلخص الإشكال بقوله: " علماء الاجتماع يعانون من التبعية الفكرية ومتأثرون بالنظريات المستوردة التي عاصروها في مرحلة التكوين وما زالوا يكرّسون أنفسهم لها".
ويقول عبد الوهاب بوحديبة: "إنَّ جهدًا كبيرًا يضيع علينا لأننا نجري وراء النظريات، ونلجأ إلى تفسيرات وكأنها وحي مبين، ونحاول أن نسلطها على المجتمع العربي، ثم نحكم على المجتمع العربي حسبما يمكن أن نستنتج، والحقيقة يجب أن تنعكس الآية، وأن ننطلق من المجتمع العربي؛ لأن الواقع هو الذي يحكم على النظريات وليس النظريات هي تتحكم بالواقع". ويقول سالم ساري: "إن إشكالية بحوث الاجتماعيين العرب تكمن في أنها لا تمت بصلة إلى الواقع المجتمعي العربي". وتقول ناهد صالح إن هناك حاجة "لوجود نظرية تنبع من واقع المجتمع العربي".
وفي دراسة بعنوان "الأزمة الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي" للدكتور محمد حجازي يقول فيها: "نشأ وتطور علم الاجتماع وما زال هزيلاً، لا يوفر مقولات نظرية خصبة قادرة على الإيحاء بأفكار تعين على النماء والتجدد، ومناهج يمكن أن تقود إلى نتائج صلبة الأساس نافذة الدلالة، وكان وما زال منعزلاً أو مغتربًا عن الواقع الاجتماعي الحي".
والدكتور حجازي يرى أن الفجوة بين عالم التنظير وعالم الواقع أدت إلى أن يساهم علماء الاجتماع في تزييف الواقع من خلال إساءة فهم المجتمع نفسه، وإعطاء تصوّر مباين للواقع. كما أنَّه يشكو كذلك من غياب التنظير الحقيقي والغرق في التطرّف الإمبريقي.
وبناءً على الجدل السابق نصل إلى أنَّ دعوى الأقلمة مطروحةٌ، ويقرّها روّاد علم الاجتماع، ذلك لأنَّ الأقلمة من حيث الأصل سلوك علمي منطقي، ويبقى الجدل بعد ذلك حول شخص الإقليم نفسه المطالب بالأقلمة، هل يتمتع بأبنية ونظم اجتماعية تضيف له خصائص مختلفة توجب اختلاف التصوّر للمفاهيم المحورية في النظرية الاجتماعية أم لا، فإن كان الجواب بالإيجاب كان من المعين الالتزام باستحقاقاته، وهي إنشاء فرع جديد يجيب عن متطلباته.
هل يغني علم اجتماع عربي عن علم اجتماع خليجي؟
هنا نناقش سؤال قد يرد إلى ذهن القارئ، وهو أنه إذا أقررنا بأهمية الأقلمة على الصعيد العربي على الأقل، أفلا يغني وجود علم اجتماع عربي عن وجود علم اجتماع خليجي؟
منطقيًا لا يمكن إثبات الحاجة لعلم اجتماع خليجي إلا إذا ثبت أنَّ للاجتماع الخليجي خصائص تختلف كمًا وكيفًا بمجموعها عن خصائص الاجتماع العربي، وهذا ما ندّعيه في هذه المقال، فللاجتماع الخليجي خصائص مشتركة يحصل بمجموعها تمايز عن بقية أنماط الاجتماعات الإنسانية، لا سيما الاجتماع العربي، ومن تلك الخصائص:
- وحدة الإطار السياسي، أي أن المجتمعات الخليجية تعيش تحت أنظمة ملكية وراثية، ولا يوجد مجتمع من المجتمعات الخليجية يعيش تحت نظام جمهوري.
- وحدة الإطار الاجتماعي، أي أنّ العادات الاجتماعية الحاكمة على السلوك الاجتماعي موحدة في غالبها.
- وحدة الإطار الديني، إذ إنَّ سكان الخليج جميعهم يدينون بدين الإسلام، مع وجود استثناء لا يُذكر.
- وحدة الإطار المذهبي، إذ إنَّ أغلب سكان الخليج ينتمون إلى المذهب السني، ووجود أقليات دينية لا يعكّر صفو عموم ما سبق؛ لأنَّ العبرة بالغالب والتيار العام الذي يشكّل التوجّه الظاهر.
- وحدة نمط النسب، إذ إنَّ معظم سكان الخليج ينتسبون إلى وحدات قبلية، خلافًا لمجتمعات عربية أخرى، مثل مصر ولبنان وتونس. وكثير من قبائل الخليج لا يقتصر وجودها على مجتمع دون آخر، بل لها انتشار في أكثر من مجتمع خليجي، مثل قبيلة بني خالد والظفير وعنزة وشمر وعتيبة والمناصير وغيرهم.
- وحدة المرجعية، إذ إنَّ المجتمع الخليجي لديه مرجعية موحدة، وهذه المرجعية تقوم على ثنائية الدين والعرف.
- وحدة الإطار العرقي، تنتمي المجتمعات الخليجية إلى إطار عرقي واحد، وهو العروبة. فلا توجد أقليات عرقية تشكّل عائقًا عن الوحدة العرقية في الخليج، كحالة الكرد في العراق وتركيا وإيران وسوريا، أو حالة الأمازيغ في الدول المغاربية أو البلوش في إيران.
هذه الخصائص المشتركة للاجتماع الخليجي بحمولتها المتنوعة قادرة منهجيًا أن تجعله موضوعًا متمايزًا لفرع علمي جديد، ولو رأينا منطق التوسّع العلمي في حقل علم الاجتماع لوجدنا أنَّ مجموع هذه الخصائص أولى من بعض فروع علم الاجتماع بالاستقلال العلمي. فعلى سبيل المثال هناك "الاثنوغرافيا" وهناك "الاثنولوجيا"، وحين تبحث بين هذين الحقلين تجد أنه لا يوجد فرق جوهري موضوعيًا، وإنما الفرق يكمن في نوع الدراسة، فالأولى تقتصر على الجانب الوصفي، والثانية تضيف إلى الوصف المقارنة. وكذلك حين نرى الفرق بين "الانثروبولوجيا الاجتماعية" و "الانثروبولوجيا الثقافية" سنجد أن التركيز على نمط معين من الاجتماع هو الفارق الوحيد بين هذين الحقلين. ولا شك أنه مع مراعاة تباين الخصائص للاجتماع الخليجي مع خصائص أنواع الاجتماعات الإنسانية الأخرى سنجد أنَّ الاجتماع الخليجي أولى بالعلميّة من تلك الحقول.
من جهة أخرى، نجد هذه الخصائص المشتركة في الاجتماع الخليجي تساعدنا في الوصول إلى تفسير علمي للسلوك الاجتماعي، وهي التي من شأنها أن تولّد ما يسمّيه عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز Mills "المخيّلة السيسيولوجية"، والتي يرى أنه لا يمكن أن يؤدي عالم الاجتماع وظيفته في العمل السيسيولوجي دون امتلاكها.
كما أنَّ هذه الخصائص يجب أن تنعكس بحضورها الكلي على موضوعات علم الاجتماع بنحو مباشر، أي يجب أن تتُضمن هذه الخصائص في البنية النظرية لعلم الاجتماع بحيث تشكّل إطارًا لوعي الباحث الاجتماعي، لا أن تكون مجرد حالات دراسية تجزيئية كما هو الحاصل حاليًا. فلا بد من إدراك الباحث لهذه الخصائص وتفاعلاتها، وإدراك جدلية العلاقة فيما بينها، كي يصل إلى تفسير علمي للسلوك الاجتماعي دون نظرة تجزيئية تحمّل أحد الموجهات عبء التفسير الكلي للسلوك الاجتماعي، سواء أكان على مستوى الاجتماع الكلي "الماكروسوسيولجي" الذي يعنى بدراسة الأنساق الاجتماعية الكبرى مثل النسق السياسي أم كان على مستوى "المايكروسوسيولوجي".
وهذا لا يستلزم أن يكون عالم الاجتماع عالمًا بكل موضوعات تلك الموجهات، فقد نبّه روبرت ماكيفر إلى أنَّ علم الاجتماع ليس من مسؤوليته دراسة الموضوعات المعرفية من حيث مضمونها، فهو لا يدرس الدين باعتباره دينًا ولا الاقتصاد باعتباره اقتصادًا، بل باعتباره تأثيرهما في السلوك الاجتماعي. أي أنَّ علم الاجتماع معني بأثر التفاعلات الاجتماعية وشكلها لا بمضمونها من حيث الأصل؛ لأن الموضوع من حيث يتكفّل به العلم المعني به.
خاتمة
يتضح مما سبق أنَّ تأسيس علم اجتماع خليجي لا يعدُّ ترفًا فكريًا، بل هو تطور منهجي لعلم الاجتماع العام، واستجابةٌ للمقتضيات العلمية التي تقودنا إلى عدم السماح لإنتاج سياقٍ ما أن يكون المتحدث الرسمي باسم السياقات الأخرى، لا سيما إن كانت تلك السياقات تحمل تباينات جذرية في البناء الاجتماعي كما هو الحال في السياق الخليجي. كما أنَّ التأسيس لعلم اجتماع خليجي يضمن لنا أن يكون للواقع الخليجي بناء نظري يتحدث باسمه، ويستجيب لمتطلباته واحتياجاته المتمايزة، وإذا حصلت هذه الغاية فإنَّ ذلك يولّد لنا تكاملاً بين النظرية والواقع بدلاً من الفجوة المترسّخة، والتكامل إن حصل فإنَّه سوف يؤدي إلى امتلاك عالم الاجتماع دقة في تفسير الفعل الاجتماعي؛ لأنه منطلقٌ منه وإليه.
والغاية الأهم والأعمق هي أنَّ النجاح في تأسيس علم اجتماع خليجي يعزّز التأسيس لوعي عربي جديد، وعي ينطلق في فهم ذاته من ذاته، ويشعر الباحث العربي أنه قادر على تأسيس بنى نظرية منسجمة أولاً مع نظامه المعرفي، وثانيًا مع واقعه المعيش. وهذا جزء من عمل استراتيجي ضخم يجب أن ينسحب على جميع حقول المعرفة الاجتماعية والإنسانية من خلال مشروع الأقلمة.
أما متطلبات الوصول إلى علم اجتماع خليجي، فهذا عملٌ يتطلّب إجابة جماعية من قبل مجموعات بحثية من المتخصصين في علم الاجتماع، ويتطلب مؤتمرات وندوات علمية متعاقبة تقود في نهاية المطاف إلى وجود نتاج علمي جماعي يؤصّل لتأسيس علم اجتماع خليجي.
التعليقات
يوجد 3 من التعليقاتمحمد هلال الخالدي
بحث متقن ومتكامل، فيه عمق وبعد نظر، ويستشرف حاجة ماسة لمجتمع دول الخليج. مشكلة الدول العربية عموما، ودول الخليج خاصة هي عدم تقديرهم لعلم الاجتماع بصورة جيدة - في الكويت مثلا تم إلغاء تدريس مادة علم الاجتماع في المرحلة الثانوية منذ 8 سنوات تقريبا - وفي جامعة الكويت حيث درست، لا يزال علم الانثروبولوجيا جزء من قسم علم الاجتماع، رغم انه انفصل في أغلب جامعات دول العالم، كذلك قسم الخدمة الاجتماعية ! - هناك أيضا مسألة التخصص وسوق العمل، فإذا كان خريج قسم علم الاجتماع لا يجد عملا ، فكيف سيصبح حال المتخصص بأحد فروع هذا العلم ! / جهد رائع .. شكرا دكتور نايف
د. أيمن صالح
أحسنتم د. نايف - لو أمكنكم إيجاد فرع من فروع علم الاجتماع يختص ببقعة جغرافية معينة أو بطائفة معينة لكان هذا يخدم فكرتكم جدا، وهو ما لم أره في المقال. - على ضوء ما قلتم يمكن الدعوة لتأسيس علم اجتماع عراقي، ومصري ومغاربي وهكذا لأن المسوغات موجودة تماما كما في حالة علم الاجتماع الخليجي. - علم الاجتماع الخليجي بدوره سيتقاطع مع فروع أخرى للعلم نفسه مثل علم الاجتماع البدوي وعلم الاجتماع الحضري، وغيرها لأن الخليجين أنفسهم وإن كانت بينهم قواسم مشتركة إلا أنهم يختلفون باعتبارات شتى. - الدعوة لأن يكون علم الاجتماع واقعيا غير متأثر بالاسقاطات الغربية منطلقا من المجتمعات المدروسة لا يسوغ في نظري وحده الدعوة لإنشاء فرع من علم خاص، بل يكفي في ذلك الدعوة إلى أقلمة علم الاجتماع، والله أعلم.
حلا سواس
رائع.. كل الشكر