لماذا ينبغي أن يتخلّى المسلمون عن مصطلح العلمانية؟
اسم الكاتب : نايف بن نهار
المشاهدات : 4934
لنبدأ المرافعة انطلاقًا من تعريف الوعي، لأنَّ كل مصطلح إما أن يصنع وعيًا أو يعبّر عنه بالضرورة. والوعي هو مجموع التصورات المتعلقة بالمفاهيم والظواهر الإنسانية، فكل مجتمع لديه مفاهيم وفيه ظواهر، ما نتصوّره عن هذه الظواهر وتلك المفاهيم يسمى "الوعي"، وهذا التصوّر الذي نتبناه تجاه المفاهيم والظواهر قد يكون صحيحًا فيكون وعينا سليمًا، وقد يكون خاطئًا فيكون وعينا مزيّفًا.
ثم بعد امتلاك هذا التصوّر لا بد من صوت ناطق باسمه، إذ التصورات لا وجود لها إلا في الأذهان، وهذا الصوت هو ما نسمّيه "المصطلح"، فمثلاً حين تكون هناك ظاهرة ممارسة الجنس مقابل مال، فإننا نمتلك تصورًا سلبيًا عن هذه الظاهرة، ولأننا نمتلك تصوّرًا سلبيًا فإننا سنطلق عليها مصطلحًا يعبّر عن هذا السوء، وهو مصطلح الدعارة.
هكذا إذن نكتشف أن المصطلحات هي الصوت الذي يفضح ما نخفيه من تصوّرات، ولذلك تتغيّر مصطلحاتنا بتغيّر تصوراتنا، فحين نمتلك تصورًا حميدًا عن ظاهرة الإنفاق الواسع على الضيف فإننا نطلق عليها مصطلح "الكرم"، لكن حين ننظر إليها سلبًا فسنطلق عليها مصطلحًا سلبيًا، مثل "الإسراف" أو "التبذير" أو نحو ذلك.
فالمصطلح إذن امتداد لوعينا الذاتي، لكن يجب أن ننتبه إلى أن المصطلح لا يكون امتدادًا لوعينا إلا حين يكون من إنتاجنا، أي حين نكون نحن من صنع المصطلح، أما حين نستورد المصطلح من الخارج فهنا ينبغي أن ندرك أن المصطلح لن يأتينا وحده، بل مقترنًا بالوعي الذي أنتجه، وهذا ما سنراه بعد قليل.
إذن هناك علاقة واضحة كالضُحى بين المصطلح والوعي الذي ينتجه، وهذه العلاقة هي البوابة التي ندخل منها في مطالبتنا بالاستغناء عن مصطلح العلمانية، فمصطلح "العلمانية" شأنه شأن المصطلحات المستوردة، لا يمكن فصله من سياقه وإعادة تسويقه في العالم الإسلامي دون تبنّي الوعي الذي أنتجه.
لكن كيف نثبت أن العلمانية مرتبطة بالوعي الذي أنتجها؟
لنبدأ من التسمية نفسها، إذ كل مصطلح بالضرورة يتضمن إحالات، فإلى ماذا يحيل مصطلح "العلمانية"؟ المشهور أنه يحيل إلى "العالم"، أي الدنيا والدهر، وهذه الإحالة بحد ذاتها تكشف سر العلاقة بين مصطلح العلمانية والوعي الذي أنتجه، فنحن حين نقول إن العلمانية نسبة إلى العالم، فالسؤال هنا: العالم وفقًا لتصوّر من؟ هل هو العالم وفقًا لتصوّر المسلم أو وفقًا لتصور المسيحي؟
قد تقول لي: وهل ثمة فرق بين التصوّرين؟ سأجيبك بنعم كبيرة، الفرق شاسع بين التصورين، فالمسيحي يؤمن بالفصل بين مملكة السماء ومملكة الأرض كما تنص على ذلك الأناجيل، وتاليًا يعلن المسيحي أنه لا ينتمي إلى هذا العالم، وإنما ينتمي إلى مملكة السماء، ولذلك فإن المسيحي المتدين هو المسيحي المنعزل عن هذا العالم خالصًا للآخرة.
هذا هو تصوّر المسيحي للعالم، أما التصوّر الإسلامي فهو على الضد من ذلك، إذ إن المسلم يؤمن بضرورة تحقيق فاعلية شاملة بين الإنسان والعالم، فالله تعالى يقول: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} هذا أمر إلهي للمسلم بأن يخرج إلى هذا العالم لنشر ثقافة المعروف ومحاربة المنكر. والمسلم مأمور بأن يتدافع مع بقية البشر لنشر الحق {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} والمسلم مأمور بالدفاع عن نفسه ولو عبر استعمال القوة {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} أي بسبب أنهم ظلموا.
والفارق بين التصورين ظاهر عند أدنى موازنة بين نصوص الإنجيل ونصوص القرآن:
- فإذا كان الإنجيل يقول: "من يأخذ بالسيف فقد هلك"،[1] فإن القرآن يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}.
- وإذا كان الإنجيل يقول: "لا تقاوموا من يسيء إليكم".[2] فقد قال القرآن: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
- وإذا كان الإنجيل يقول لأتباعه: "من أراد أن يخاصمك ليأخذ ثوبك فاترك له رداءك أيضًا"،[3] فإن الإسلام يقول لأتباعه: "من قُتل دون ماله فهو شهيد".[4]
- وإذا كان الإنجيل يقول: "أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر" فإن الإسلام لا يسمح أصلاً بوجود قيصر؛ لأن الأمر يجب أن يكون شورى بيننا، وإن جاء قيصر إكراهًا وغصبًا فإن الإسلام لا يأمر أتباعه بالتسليم، بل لا يجوز لهم حتى أن تميل قلوبهم إليه {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}، وإنما يوجب عليهم مقاومة الظلم تحت عنوان المدافعة.
إذن الإسلام يريد من المسلم أن يكون فاعلاً على المستوى الحضاري، وهذه الفاعلية تتطلب النقد والمثاقفة والمدافعة، هذا يعني أن الفرق أصبح ظاهرًا بين التصورين الإسلامي والمسيحي، فالمسلم لا يكون متدينًا إلا إذا "تفاعل" مع العالم، والمسيحي لا يكون "متدينًا" إلا إذا "انسحب" من العالم، فإذن نحن نتحدث عن وعيين مختلفين تجاه العالم، وتاليًا إحالة المسلم إلى كلمة "العالم" هي إحالة تخرجه من وعيه الذاتي إلى وعي آخر، وهذا الإخراج يعني أنه سيفكر بواقعه لا من خلال وعيه الذاتي بل بتوسّط وعي أجنبي، وهنا تحديدًا تولد الفجوة بين المثقف والواقع، لأنه استعان بوعي أجنبي عن واقعه، فلم تعد هناك لغة مشتركة بين الفكر والواقع.
إذا فهمنا ما سبق نفهم أنَّ فصل الدين عن العالم أمر طبيعي لدى المسيحي، فهو يرفض أصلاً الدخول في هذا العالم حين أعلن أن مملكته في السماء حصرًا، فحين تفصل الدين عن العالم فأنت لا تفعل شيئًا أكثر مما يريده المسيحي المتدين نفسه. أما حين تقول للمسلم افصل الدين عن العالم فأنت تأمره أن يتخلى عن دينه، فالوحي مليء بالنصوص التي تأمر المسلم بالتفاعل مع العالم كما شرحنا، والإسلام أصلاً جاء ليقوم المسلمون بالقسط، فكيف يستقيم أن نطالبه بترك العالم والاقتصار على المسجد؟
زد على ذلك أننا حين نفتح صندوق العلمانية نجد في جوفه مصطلحات تحيلنا هي الأخرى إلى الوعي المسيحي كذلك، فقد وجدنا فيه مصطلح "السلطة الدينية"، ووجدنا فيه مصطلح "السلطة الزمنية"، ومصطلح "رجال الدين"، والمسلم واجدٌ نفسه أجنبيًا عن هذه المصطلحات، فليس في الإسلام سلطة دينية ولا تاليًا سلطة زمنية ولا رجال دين، لكن كل ذلك أنت واجده في المسيحية.
وهذا أكثر الأدلة اعترافًا بحقيقة أن العلمانية مرتبطة بالوعي الذي أنتجها، لأجل ذلك لم تأت العلمانية وحدها إلى العالم العربي، بل جاءت بصحبة شبكتها المصطلحية، مثل مصطلح "رجال الدين" ومصطلح "السلطة الدينية" ومصطلح "السلطة الزمنية" وغير ذلك من المصطلحات، ولم تضطر العلمانية لجلب شبكتها المصطلحية معها إلا لأنها مرتبطة بالوعي الذي أنتجها، وهكذا نجد مصطلح العلمانية يبدأ يسرّب الوعي الذي أنتجه في ثقافتنا.
"أنتم أعلم بأمور دنياكم"
كي نتأكد أكثر من أن العلمانية لم تأت وحدها إلى عالمنا، بل أتت بصحبة الوعي الذي أنتجها، فعلينا أن ننظر مثلاً إلى كيفية فهم المثقفين المسلمين اليوم للرواية المشهورة "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، إذ أصبح كثير من مثقفينا يستدل بها على فصل الدين عن السلطة، اعتقادًا أن كلمة "الدنيا" تشمل كل ما سوى الشعائر الظاهرة التي تُسمّى "العبادات".
وهذا في الحقيقة تقمّص للوعي المسيحي دون شعور، إذ إن فهم الدنيا على أنها كل ما سوى الشعائر من صلاة وصيام وحج وزكاة هو فهم يستطبن التصور المسيحي لكلمة "الدنيا"، وإلا فإن التصوّر الإسلامي للدنيا ليس كذلك، فالدنيا في التصوّر الإسلامي هو كل أمر لم يرد فيه نص شرعي، أما إذا ورد فيه نص شرعي فهو من العبادات مهما كان مجاله، فلا توجد حدود صلبة بين الدين والدنيا في التصور الإسلامي، لذلك نجد الدين موجودًا في كل مجالات الدنيا:
- فالاقتصاد مثلاً من مجالات الدنيا، لكن من يمارس الربا في الاقتصاد هو يخالف دينه لا دنياه.
- والجنس من الدنيا، لكن من ينشئ دور الدعارة هو يخالف دينه وليس دنياه.
- والعلوم الطبيعية من الدنيا، لكن من يستثمرها للإضرار بالناس هو يخالف دينه لا دنياه.
- والسياسة من الدنيا، لكن من يصل إلى السلطة بغير آلية الشورى فإنه يخالف دينه لا دنياه.
وهكذا نجد أن الإسلام يهدم الجدار الوهمي الذي صنعته المسيحية بين الدين والدنيا، ويجعلهما متكاملين بناءً على تفاعل جدلي بينهما، فالدين والدنيا خطان متوازيان في المنطق المسيحي، فهناك من ينتمي إلى الدين (وهم رجال الدين) وهناك من ينتمي إلى الدنيا (وهم العلمانيون)، أما في التصور الإسلامي فهما يسيران على ذات المسار، لكن تسرّب الوعي المسيحي والمنطق الكهنوتي لعقولنا جعلنا لا نفهم الدنيا وفقًا للتصور الإسلامي، ولا فهمنا الدين وفقًا للتصور الإسلامي.
الخلقانية بديلاً عن العلمانية
بعد أن اتفقنا على أن المصطلح يصنع الوعي أو يعبّر عنه، وبعد أن اكتشفنا أن مصطلح العلمانية يخفي وراءه وعيًا مسيحيًا صرفًا، فإن النتيجة المنطقية لهذه المقدمات أن نتبرأ من مصطلح العلمانية، فلا حاجة لنا بمصطلح يحكي قصة وعي غير وعينا، لندفع بذلك ضريبة النظر إلى واقعنا بوعي "الآخر"، ونصبح بعد ذلك أجانب عن واقعنا.
لذلك نحن بحاجة إلى مصطلح يعبّر تعبيرًا مباشرًا عن وعينا تجاه طبيعة العلاقة بين الدين والسلطة في السياق الإسلامي، مصطلح لا يجبرنا على توسّط ثقافة أخرى لفهم واقعنا كما يضطرنا مصطلح العلمانية إلى ذلك، والمصطلح الذي نقترحه بديلاً هو مصطلح "الخلقانية"، ونعني بالخلقانية الاعتقاد بأن المرجعية التشريعية محصورة في الخلق دون الخالق، وهذا المصطلح مستمد من قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}. فهذه الآية تحدثت عن قضيتين: الخلق والأمر. ونصّت الآية على أن الخلق لله تعالى، والأمر الذي يسيّر الخلق هو كذلك لله تعالى، فالله عزوجل حين خلق الخلق لم يتركهم هملاً، بل أرسل الرسل ليبينوا للناس قوانين الله في خلقه، ليقوم الناس بعد ذلك بالقسط.
وهؤلاء الذين يُطالبون بفصل الدين عن السلطة هم في الحقيقة يطالبون بأن يكون الخلق بلا مرجعية إلهية، فلا ينتج عن تنحية الدين جانبًا إلا أن يكون التشريع محصورًا في الخلق وحدهم، ولأنهم يؤمنون بأن التشريع محصور في الخلق فهم خلقانيون إذن، لا يرون لغير الخلق حقًا في التشريع.
وهكذا ينتج لدينا مصطلح "الخلقانية" ليعبّر عن فكرة فصل الدين عن مرجعية السلطة وحصرها في الخلق، وهو تعبير عن الفكرة من حيث نتيجتها ومآلها، وهذه أهم نقاط قوة المصطلح؛ لأنها تجعل الفكرة مرتبطة بنتيجتها بنحو واضح، وهو ما ينقلنا سريعًا من دائرة الحكم التصوّري إلى الحكم المعياري والقيمي. (شرحنا ذلك في كتاب من العلمانية إلى الخلقانية).
وأنا أعلم أن مصطلح "الخلقانية" ناشئ عن إيماني بأن هناك خالقًا وخلقًا، وهذا لا يستسيغه أولئك الذين لا يؤمنون أصلاً بوجود الخالق، لكني _ وعلى بلاطة_ لستُ معنيًا بهؤلاء، ليبقوا على مصطلح العلمانية أو ليبتكروا غيره، أما مصطلح الخلقانية فهو مقترح أقدمه للأمة الإسلامية كي تتخلّص من مصطلح لطالما أضاع أعمار باحثيها في مطاردة السراب.
مصطلح الخلقانية يقوم بمهمتين
إذا توافقنا على مصطلح الخلقانية بديلاً عن مصطلح العلمانية، فإن مصطلح الخلقانية قادر على أن يقوم بمهمتين تعجز عنهما العلمانية:
المهمة الأولى: الإحالة المباشرة إلى محل الخلاف، ذلك أن الخلاف اليوم في العالم الإسلامي محصور في مسألة أساسية: هل يكون للدين مرجعية عليا في التشريع أو لا؟ هناك من يرى وجوب أن يكون الدين هو المرجعية العليا للتشريع، لأن ذلك هو الذي يخلق انسجامًا بين تصوّره الوجودي والاجتماعي، وهناك من يرى وجوب فصل الدين عن التشريع، فيكون التشريع محصورًا في الخلق.
هذا هو الخلاف الأساس في العالم الإسلامي بعيدًا عن كل التهاويل اللفظية التي يسوّر المثقفون بها هذا الخلاف، وأنت عليم أن هذا الخلاف إذا عبّرنا عنه بمصطلح "الخلقانية" فإنه يقودنا إليه مباشرةً، لأن الخلقانية كما قلنا تناقش جدل التشريع بين الخالق والخلق.
أما التعبير بمصطلح "العلمانية" فلن يقودنا إلى محل الخلاف كما فعل مصطلح الخلقانية، بل سيقودنا للدخول في دائرة تائهة، ذلك أن العلمانية لها مئات التعريفات بلا مبالغة ولا تهويل، فهناك من يراها فصل الدين عن المجتمع كله، وهناك من يراها فصل الدين عن المجال السياسي، وهناك من يراها فصل الدين عن السلطة فحسب، وهناك من يرى العلمانية غير متعلقة بفصل الدين أصلاً، وإنما بفصل رجال الدين وحدهم، وآخرون خرجوا عن هذه الدائرة أصلاً، ورأوا أن العلمانية هي عمارة الدنيا بجوار عمارة الدين، ومنهم من رأى أنها موقف في مناضلة الروح لأجل الحقيقة، ومنهم من رأى أنها ليست إلا الإلحاد.
وهكذا تجد نفسك أمام كومة من التعريفات تضطرك للمكث في دائرة المفهوم حينًا من الدهر، والزاهدون في أعمارهم وحدهم هم الذين سوف يتبرّعون بها لإضاعتها في مناقشة كل هذه الاتجاهات في تعريف العلمانية والاستدلالات التاريخية والدينية التي نشأت عنها، لكن العاقل يدرك أن هذه الأسئلة كلها ليس هو حفيًا عنها ولا معنيًا بها، لأنها لا تقوده مباشرة إلى محل الخلاف، فلو قال شخص إنه يؤيد العلمانية أو يرفض العلمانية فإنه لا يحيلنا إلى شيء واضح، فهل هو يرفض حكم علماء الإسلام أم يرفض الإسلام نفسه؟ وهل هو يريد فصل الدين عن السلطة فحسب أم عن الفضاء العام؟ أم يقصد عقلنة الخطاب الديني؟ لا نفهم المطلوب بنحو مباشر، ولأنه لا يُفهم بنحو مباشر فإن هذه المساحة تشهد مراوغات واسعة من المثقفين في تعريفهم للعلمانية تهربًا من استحقاقاتها. وربما يحلو لبعض الناس الإصرار على مصطلح "العلمانية"؛ لأنه يقربه من مفاهيم فاضلة يستطيع أن يراوغ من خلالها، مثل مفهوم العلم أو مفهوم العالم باعتباره محلاً للفاعلية الإنسانية.
إذن لا يحيلنا مصطلح العلمانية إلى محل الخلاف مباشرة، وإنما يحيلنا لبحث أسئلة المفهوم والتاريخ وأعباء لسنا معنيين بها في العالم الإسلامي، خلافًا لمصطلح الخلقانية الذي يعتذر لكل تلك الأعباء مدعيًا أنه غير معني إلا بمسألة واحدة حصرًا، وهي مسألة: من يملك المرجعية التشريعية العليا، الخلق أم الخالق؟
فلا داعي لبحث التعريفات الكثيرة للعلمانية، التي تحيلنا إلى عدد لا نهائي من التصورات عن العلمانية، ولا داعي كذلك لإضاعة الوقت في بحث إشكالات الترجمة، فلا يخفى أن ثمة اختلافًا واسعًا عند الباحثين العرب في ترجمة مصطلح "secularism"، أهو علمانية أو دنيوية أو دنيوة أو دهرية أو عالمانية؟ ثم ما الفرق بين العلمانية واللائكية؟ والعلمانية ذاتها مختلفٌ في تحديد ما تعود إليه، أهي تعود إلى العالم أو العلم؟ وكل منهما يحيلنا إلى سياقات مختلفة.
كل هذه الأعباء يعفينا منها مصطلح "الخلقانية"؛ لأنه لا يحيل إلا لمحل خلاف وحيد لا ثاني له، فلا يحيلك إلى سياقات سياسية وثقافية لإدراك مدلوله، ولا إلى صيرورات اجتماعية لدراسة تطوراته وتشكلاته، كل ذلك لسنا معنيين به عند استعمال مصطلح الخلقانية.
المهمة الثانية: الإحالة إلى الذات لا إلى الآخر، ذلك أن مصطلح العلمانية لا يسمح للمسلم بأن يُسقط الكُلفة مع واقعه من أول لقاء، فأنت حتى تفهم العلمانية يجب أن ترحل إلى الحضارة الغربية، ومن قبلها الحضارة المسيحية، باحثًا عن جدل العلاقة بين الديني والدنيوي منذ لحظته الأولى، ثم دراسة النص المسيحي الذي يشكّل هوية الإنسان الغربي لمعرفة موقفه من المسألة السياسية، ودراسة التاريخ السياسي الغربي، ودراسة تأثير الثورة الفرنسية على الموقف من الدين سببًا ونتيجة، ثم بعد ذلك أنت مضطر لقراءة ما كتبه الأولون والآخرون عن العلمانية كي تفهم حقيقة المراد بها، وأنت بعد ذلك كله لن تمسك بتعريف العلمانية إلا وتجده يتفلّت من يديك، لا لارتباك يديك، بل لأنك سترى أنه بحد ذاته مفهوم زئبقي لا يمكن الإمساك به.
وهكذا نجد أنفسنا مضطرين لدراسة ثقافة "الآخر" من ألفها إلى يائها حتى نفهم هذا المصطلح، ثم بعد فهمنا نحمله على أكتافنا عائدين إلى العالم الإسلامي لنقول فرحين: لقد فهمناها! فنتفاجأ أن هناك مئات الباحثين ينتظروننا بتصورات مختلفة عن العلمانية ليقولوا لنا: لا، لقد ذهبنا إلى هناك وجئنا بغير الذي جئتم به.
ثم يبدأ بعد ذلك الجدل التائه، الجدل الذي يجعلنا نتناقش في ثقافة "الآخر" لا في ثقافة "الذات"، فنكتشف أن العلمانية لا تسمح لنا بالتعامل مع واقعنا تعاملاً مباشرًا، بل بتوسّط ثقافة الآخر، وهذا الذي تسبب بهجرة جماعية لمثقفي العرب إلى الثقافة الغربية طمعًا في فهم سياق مصطلحاتها التي تملأ المجال الثقافي العربي، وبعضهم قد عاد من هذه الهجرة في آخر عمره، وبعضهم مات هناك قبل أن يعود إلينا.
[1] راجع: إنجيل متى (26: 52)
[2] راجع: إنجيل متى (10: 38)
[3] راجع: إنجيل متى (10: 38)
[4] الحديث في سنن أبي داود وغيره، وقد جاء ما هو أصح منه مما يتضمن المعنى نفسه، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد»، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار». راجع: صحيح مسلم، حديث رقم (140)
التعليقات
يوجد 0 من التعليقاتلا يوجد تعليقات